إعلان

هل مصر بلد فقير حقا ؟ من وحي نتائح التعداد العام للسكان لعام 2017 (6)

هل مصر بلد فقير حقا ؟ من وحي نتائح التعداد العام للسكان لعام 2017 (6)

د. عبد الخالق فاروق
09:00 م الخميس 05 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أظهرت النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والإسكان لعام 2017، الذي أعلنته وزارة التخطيط، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يوم السبت الماضي الموافق 30 سبتمبر، عن حقائق مثيرة وجديرة بالتوقف عندها بالتحليل والشرح.

وهذه الحقائق بعضها يتضمن جوانب قصور وفشل في إدارتنا لمنظومات العمل الوطني، سواء في مجال التعليم ومحو الأمية، أو في منظومات الإسكان والتنظيم الاجتماعي، وبعضها الآخر يشتمل على عناصر قوة تتطلب التعزيز والعمل على توطيدها.

سوف أتوقف هنا عند إحدى نتائج هذا التعداد، في محاولة لاستكمال إجابتنا على السؤال الاستراتيجي الذي طرحه البعض منذ عدة أشهر ألا وهو: هل نحن بلد فقير حقا؟

لقد أظهر التعداد الأخير، أن عدد الشقق السكنية المغلقة قد بلغ 12.0 مليون شقة، وكان هذا العدد في تعداد عام 1986 يقارب 3.0 مليون شقة، ثم زاد في تعداد عام 1996 إلى 5.5 مليون وحدة سكنية مغلقة، وفي عام 2006 ووفقا لنتائج التعداد بلغ العدد 7.9 مليون وحدة خالية أو مغلقة، ها هو الآن يصل إلى 12.0 مليون شقة مغلقة.

فما الذي يمكن استنتاجه واستخلاصه من هذا الرقم الجديد؟
نستطيع أن نستنتج الحقائق التالية:
أولا: لقد استخدمت ظاهرة الشقق المغلقة والخالية منذ عام 1986، للحديث حول أسباب تفاقم هذه الظاهرة، وأرجعها البعض من لوبي أصحاب العقارات القديمة، ومناصريهم من نواب مجلس الشعب إلى مسئولية قوانين الإسكان القديمة التي كانت تتحيز لصالح المستأجرين على حساب ملاك العقارات، وبدأ الضغط مكثفا منذ ذلك التاريخ حتى نجحت جماعات المصالح تلك في استصدار قانون جديد للعلاقة بين المالك والمستأجرين رقم (4) لسنة 1996، وتحولت العلاقة إلى علاقة سوقية تحكمها عوامل العرض والطلب.

وبرغم صدور هذه القانون المتحيز للملاك العقاريين، فإن ظاهرة الشقق المغلقة والخالية لم تنقص، بل على العكس زادت من 5.5 مليون شقة عام 1996، إلى أكثر من 7.9 مليون شقة عام 2006، ثم ها هي تصل إلى 12.0 مليون شقة عام 2017.

ثانيا: تؤكد هذه الظاهرة بما لا يدع مجالا لأدنى شك، أن مشكلة الإسكان في مصر ليست مشكلة عرض، وبالتالي الحاجة إلى مزيد من بناء الوحدات السكنية، كما تضمن برنامج الرئيس الحالي وبناء مليون ونصف المليون وحدة سكنية جديدة، بل إن جوهر المشكلة تتمثل في الطلب، أي في ضعف قدرة المصريين المحتاجين فعلا إلى هذه الوحدات السكنية، في تلبية المطالب المبالغ فيها لأصحاب هذه الشقق، سواء بسبب انتشار نمط التمليك بأسعار فوق طاقة معظم المصريين، أو بسبب ارتفاع القيمة الإيجارية المطلوبة لكثير من هذه الشقق، ومن ثم فإن التحدي الرئيسي الذي يواجه الدولة المصرية هو البحث عن صيغة أكثر توازنا في استغلال هذه الثروة العقارية غير المستغلة، وإلزام أصحابها بالتساهل سواء بالبيع أو التأجير بأسعار وقيم مناسبة، أو فرض ضرائب اجتماعية على إغلاق تلك الشقق دون استخدام، أما الاندفاع مرة أخرى في سياسة البناء وبنفس شروط السوق الراهن للعقارات فإنها سياسة ستخصم من موارد المجتمع وترفع أسعار مواد البناء، دون أن تحقق حلا ناجعا لمشكلة الإسكان في مصر.

ثالثا: أن هذه الشقق الخالية والمغلقة، تتراوح أعمارها بين 15 عاما حتى عام واحد، وبالتالي فقد حرمت هذه الممارسة المجتمعية الضارة ملايين الأسر المصرية من الحق في السكن، بسبب الطمع الإنساني من ناحية، وعوامل العرض والطلب وبقرة اقتصاد السوق المقدسة من ناحية أخرى، ومن ثم فإن إدارة رشيدة وكفأة في المجتمع والدولة المصرية ينبغي أن تغلب المصلحة الوطنية العليا على حق وصيانة الملكية الخاصة المتذرع بها في هذه الحالة، من خلال تعديل تشريعي يلزم أصحاب تلك الشقق بالتصرف بها خلال مهلة زمنية معينة، أو تفرض عليها ضريبة سنوية تسمى "ضريبة المسكن المغلق"، مما يحقق إيرادات للدولة تسمح لها بتمويل برامجها في مجال السكن الاجتماعي لمحدودي الدخل والفقراء وسكان العشوائيات.

رابعا: تظهر هذه الظاهرة الشاذة من جانب آخر، مقدار سوء الإدارة المجتمعية للموارد والإمكانيات المتاحة، فهذه الشقق المغلقة والخالية منذ سنوات طويلة، قد استهلكت ملايين الأطنان من مواد البناء (حديد – أسمنت – طوب.. وغيرها)، علاوة على المرافق الموصولة للكثير منها (الكهرباء – الماء.. وغيرها)، وكلها استهلكت من الموارد المتاحة في المجتمع، ثم أصبحت أصولا مجمدة وغير مستغلة، تتراوح تكاليفها بين 600 مليار جنيه (في حال تكاليف بناء الشقة الواحدة 50 ألف جنيه)، إلى 1200 مليار جنيه (في حال افتراض تكاليف بناء الشقة الواحدة 100 ألف جنيه)، مما حرم المجتمع منها من ناحية، وبما أدى لزيادة الطلب على تلك المواد، فأدى لزيادة أسعارها في السوق المصرية، دون أن تؤدي فعلها في تخفيض حدة الإسكان في المجتمع المصري.

خامسا: ويكشف غياب التخطيط للمشروعات العقارية، وغير العقارية للحكومة المصرية منذ عام 2014 حتى اليوم، عن تأثيرات عكسية على تكاليف الإنتاج عموما والمشروعات الإنشائية خصوصا، فهذا التوسع دفعة واحدة قد أدى لزيادة أسعار غير مبررة في مواد البناء وتكاليف بناء الوحدات السكنية وغير السكنية، حيث زاد سعر طن الحديد من 5700 جنيه في نوفمبر عام 2013 إلى أن بلغ 11900 جنيه في 30 سبتمبر عام 2017، وكذلك زاد سعر طن الأسمنت من 530 جنيها إلى 730 جنيها خلال نفس الفترة.

إنها الفوضى.. والفشل في إدارة مواردنا، والترديد الأجوف لمقولة "اقتصاد السوق"، فأوصلتنا إلى هذا التشوه في إدارة مواردنا.
ولذا نقول إن مصر ليست بلدا فقيرا.. بقدر ما أن حكوماتها فاشلة في إدارتها.

تكاليف بناء الشقق المغلقة والخالية في مصر عام 2017 تتراوح بين 600 مليار جنيه إلى 1200 مليار جنيه.

إعلان