إعلان

في ذكرى رحيل «محمد السيد سعيد».. كم نفتقدك يا رجل؟

في ذكرى رحيل «محمد السيد سعيد».. كم نفتقدك يا رجل؟

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 11 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان رأسه معمل أفكار متنقلًا، وقلبه يسع العالم، يفيض على من يقتربون منه بعلمه الغزير وأدبه الجم، ويثق دومًا في أن الغد سيكون أفضل من اليوم، ثقة العالم في ما يجود به عقله، والفنان في ما يهبه وجدانه. حين كان يختلط الحابل بالنابل، وتتفرق بنا السبل، وتزداد الصور أمامنا قتامة، نجد في آرائه ما يبدد بعض الظلام، ويمنح كثيرًا من الأمل، ويجلب البسمة علي شفاهنا المقددة من مرارة ما يجري، وفداحة ما يكون.

إنه الدكتور محمد السيد سعيد، المفكر العميق، والباحث القدير، والكاتب المبدع، الذي تحل اليوم الذكرى الثامنة لرحيله، متوجة بأطروحة دكتوراه أعدها عنه أحد تلاميذه وهو الدكتور أحمد منيسي، عن “المشروع الفكري” للرجل، وهو موضوع كان قد فكر فيه منيسي بعد رحيل سعيد، واستغرق منه كل هذه السنوات، ليساعدنا في النهاية أن نعرف ما تفرق وتناثر وضاع على أفاريز الأيام من دراسات الرجل، وكتبه التي لم تُعَدْ طباعتها، ومقالاته المطولة التي كانت تنطوي على أفكار عميقة.

نشهد أن الدكتور محمد السيد سعيد -رحمه الله- لم يُضبط أبدًا في لحظة نفاق رخيص، ولم يكتب إطلاقًا إلا ما ينتصر للناس، ويرضي الضمائر الحية، دافعه دومًا تحسين شروط الحياة، مهما كانت قاسية، وقصده أبدًا تجديد الفكر والحركة، مهما أصابهما من جمود أو تيبس، ومراميه لا يحدها خوف من سلطة، ولا طمع في مناصب، أو مكاسب مادية.

وكان الرجل يتسم بصفات تجعل قامته طويلة في العلم والعمل، أولاها: أنه إحاطي موسوعي، لا تحدثه في أي شيء إلا تجد لديه نصيبًا منه، ولا تقرأ له أي مكتوب، حتي ولو كان مقالًا قصيرًا، إلا وتجد صدى للسياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون والآداب والفلسفة ممزوجة بنوع من التصوف الديني الرائق، الذي يتعامل مع الكليات، ويزهد في الدنيا ومتعها، ويصبو دومًا إلى الكمال والمثال. وهذه الإحاطية أعطت لكتاباته مذاقًا خاصًا، فالآراء علي عمقها مطروحة أمام العيون والعقول والأفهام ببساطة آسرة، وسلاسة متدفقة، وتجدد لا ينتهي. ففي كل مقال رؤية، وفي كل فقرة فكرة، وفي كل قول شيء يستحق الانتباه والوقوف عنده، والاتعاظ به.

والثانية: هي المزاوجة بين القول والفعل، فللدكتور محمد السيد سعيد مكانه بين منتجي الأفكار، وموقعه بين العاملين على الحرية والتقدم، من خلال مراكز الأبحاث والجمعيات الأهلية والنقابات والقوى السياسية، بدءًا بالحركة الطلابية في سبعينيات القرن المنصرم، وانتهاء بحركة كفاية، مرورًا بالتعاون مع العديد من أحزاب المعارضة، غير باخل بجهده ولا رأيه، ولا حتى ماله إن دعت الضرورة.

أما الثالثة: فهي العقلانية والواقعية. فقد كان على ثوريته، ورؤيته السياسية المبدئية، لا يترك الخيال والمثال يبحران به بعيدًا عن شطآن الواقع، إنما ينطلق مما يجري، مثبتًا إياه، ليفككه عن آخره، دون أن يقفز عليه أو يتجاهله، ثم يعيد تركيب الأفكار والأشياء، بما يسهم في تغيير هذا الواقع إلى الأفضل.

والرابعة: هي الاستقلالية. وهذه الصفة جعلت آراءه منزهة عن المصالح الذاتية الأنانية الوقتية للآخرين، وجعلته يحمل في رواحه وغدوه صفة المفكر المحترم، وليس الموظف الذي تصطاده السلطة من جيبه وبطنه وموقعه الإداري. وهذه الصفة ساعدته على أن يصنع مجده الذاتي، غير منتظر، ككثيرين، لمنصب يصنعه من عدم، ويقدمه للناس، وعلى الناس، فإن فقده ضاع منه كل شيء.

والاستقلالية موجودة في كل سطر كتبه الرجل فتجده يمدح إن كان هناك ما يستحق الثناء، ويقدح إن وجد ما يستوجب النقد اللاذع، غير متهيب لأحد، وغير مساوم على رأيه، مهما كلفه هذا من عناء. ويحضرني في هذا المقام أن أستاذنا الكبير كان الوحيد الذي طالب رئيس الجمهورية، جهارًا نهارًا ووجهًا لوجه، بأن يجد ويسرع في الإصلاح السياسي، قاصدًا بذلك مصلحة بلد يحبه حُبًا جمًا، في وقت يكتفي فيه الكتاب والمثقفون الذين يلتقون الرئيس كل سنة بالتصفيق والتهليل والتربيط من أجل مصالحهم الشخصية، حتى لو ذهب الوطن والمواطنون إلى الجحيم.

والخامسة: هي الموهبة. فكثير من الباحثين والكتاب، يبذلون جهدًا مضنيًا في سبيل الوصول إلى الحقائق، أو الاقتراب منها. أما الدكتور محمد السيد سعيد فقد وهبه الله جل شأنه وعلت قدرته، حدسًا سليمًا، يجعل الأفكار تبرق في رأسه إشراقات لا تنقطع، وترد على خاطره فيوضات ناصعة لا تنتهي. وهذا هو السر الكامن وراء معمل الأفكار المقيم في رأسه، ووراء الجديد الذي نجده في كل ما يأتي منه، والذي نحن في حاجة شديدة إليه الآن، ليشاركنا في توصيف ما يجري، ويساعدنا على معرفة كيفية الخروج منه.

إعلان