إعلان

المثقف الفهلوي المطبلاتي

المثقف الفهلوي المطبلاتي

د. أحمد عبدالعال عمر
09:05 م الأحد 25 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. أحمد عمر

في كتابه "صور المثقف" تساءل إدوارد سعيد: "من هم المثقفون، هل هم فئة كبيرة جداً من الناس، أم نخبة رفيعة المستوي وقليلة العدد؟"

وفي إجابته على هذا السؤال قدم وجهتي نظر: الأولي للمناضل والفيلسوف الإيطالي "أنطونيو جرامشي" عرضها في كتابه "دفاتر السجن"، ومؤداها أن كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع، ما لم يتوفر لهم وعي نقدي حاد بأنفسهم وبالمشكلات التي تعترض مسيرة مجتمعهم أو الطبقة التي ينتمون إليها.

أما وجهة النظر الثانية، التي قدمها إدوارد سعيد، فهي للكاتب الفرنسي "لوسيان بيندا" وعرضها في كتابه "خيانة المثقفين"، ويرى أن المثقفين "مجموعة صغيرة من الملوك الفلاسفة الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية، وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير البشرية".

وانطلاقاً من كتابات "جرامشي" و"لوسيان بيندا"، يمكن القول إن الثقافة الغربية قدمت ثلاث صور للمثقف: المثقف التقليدي والمثقف العضوي، وعرض لهما "جرامشي"، والمثقف النبي الذي عرض له "لوسيان بيندا".

فأنطونيو جرامشي قال إن كل من يملك عقلاً مثقف، وقد تكلم عن نموذجين للمثقف: النموذج الأول المثقف التقليدي، كالمعلم ورجل الدين. والنموذج الثاني المثقف العضوي الذي يرتبط بمصالح طبقة اجتماعية صاعدة تحاول الهيمنة علي المجتمع، أو مؤسسة تجارية تستخدم المثقفين لتنظيم مصالحها واكتساب المزيد من القوة.

أما المثقف النبي، الذي عرضه الكاتب الفرنسي لوسيان بيندا، فهو المثقف الحقيقي صاحب الرسالة، وهو نادر الوجود، وقد تحقق في شخصية سقراط ويسوع وغيرهما من المفكرين المناضلين، الذين يتكلمون عن الحق والعدل دون اعتبار لمصلحتهم الذاتية، ويمارسون النقد الفكري والاجتماعي بشجاعة، ولديهم استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيل تعبيرهم عن آرائهم و تأديتهم لرسالتهم النقدية التنويرية في مجتمعاتهم.

من فضاء الثقافة الغربية إلى فضاء الثقافة العربية: 

إذا انتقلنا من فضاء الثقافة الغربية إلي واقعنا الثقافي العربي، وحاولنا أن نرصد صور المثقف التي شاعت وانتشرت في أوساطنا الثقافية، منذ بداية حركات التحرر الوطني في أربعينات القرن الماضي وحتى لحظاتنا الراهنة، يمكن القول إن جيل الأربعينات والخمسينات والستينات من المثقفين العرب كان لهم قناعاتهم وأحلامهم التي ناضلوا دفاعا عنها، فقد آمنوا بفاعلية ورسالة المثقف، وبقدرة الفكر والثقافة علي صياغة مشروع النهضة العربية والتحرر ومقاومة الاستعمار، وإحداث تغيير حقيقي في البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات العربية، يدفع بها شوطاً كبيراً نحو التقدم.

لكن السلطات العربية كان لها رأي آخر؛ فقد أرادت أن تنتقل بالشعوب العربية من مرحلة " الاستعمار" الخارجي إلي مرحلة "الإستحمار الداخلي"، وذلك بحسب المقولة الأكثر مركزية في مشروع المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي، والتي عرض لها في كتابه "النباهة والإستحمار" محاولاً تشخيص وتفكيك أزمة المجتمعات الإسلامية.

والإستحمار في منظور علي شريعتي، هو آلية تقوم علي تسخير الناس كالحمير، لإنجاز غايات أصحابها في الاستغلال. وتقوم ديناميكية الإستحمار علي اتجاهين اثنين: التجهيل بإشاعة الغفلة والجهل، والإلهاء بتقديم الجزئي علي الكلي أو الخاص علي العام. وفي سعيها لإستحمار شعوبها، سعت السلطات العربية إلي احتواء المثقفين وترويضهم، ومسخهم، وتحويلهم من مثقفين مستقلين إلي تابعين لا ينطقون سوى بما يراه صاحب السلطة، أو قهر وإقصاء الشرفاء منهم مستخدمة كل الأسلحة المتاحة. 

المثقف الفهلوي: 

وقد أسفرت آليات المسخ والترويض تلك، إلى شيوع صور سلبية للمثقف في بلادنا، مثل المثقف المُوظف المُدجن، والمثقف المُبرر، إلا أن أكثرها وضوحاً وانتشاراً هو نموذج تم له السيادة منذ سبعينات القرن الماضي إلي اليوم، وأصبح الأكثر قربا إلى السلطة مهما تغيرت توجهاتها، وهو نموذج " المثقف الفهلوي " الذي يلعب بالبيضة والحجر - بالتعبير المصري الدارج - سعياً إلي استرضاء الحكام وأصحاب النفوذ والثروات من أجل تحقيق اكبر قدر من المنفعة الشخصية. 

والمثقف الفهلوي، هو المثقف المطبلاتي، الذي تتحدث عنه وتنقد سلوكه حملة رسمية في مصر اليوم، عنوانها: "حق المواطن في المعرفة" وتقدمه على النقيض من المثقف المقللاتي الغافل عن الحقيقة، المعارض على طول الخط. 

فهل حقا أدركت الدولة مثالب مثقفها الفهلوي المطبلاتي، وكيف جعلها تخسر مؤيديها دون أن يؤثر في معارضيها؟ وهل تقبل بوجود ودور المثقف الوطني المستقل، الذي لا يتنازل عن استقلاله ووعيه النقدي، ويشيد بالإيجابيات دون التغافل عن جوانب القصور في الأداء والسلبيات، ويلفت الأنظار بشجاعة إليها؟ وهل آن الأوان لأن تستمع إليه وتحترم دوره، وتجعل منه أداة لتنوير الرأي العام وتوجيهه في الطريق الصحيح، أم ستصنفه في خانة المقللاتي والمعارضة، وتقصيه وتحاربه، فتهدر وجوده ودوره؟

إعلان