إعلان

" أوفا " الذى نعرفه

" أوفا " الذى نعرفه

د. هشام عطية عبد المقصود
08:42 م الجمعة 23 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. هشام عطية عبد المقصود

أمل وعمر، يعرفهما كل من جلس فى حصص المطالعات فى المدارس المصرية، حيث كان يضمهما معا الدرس الأول من كتاب اللغة العربية، وهما معا يشكلان ذاكرة تعلم حروف الأبجدية الأولى لدى أجيال كثيرة، لن يذكر أحد عمرًا من دون صحبة أمل، ولأن حكمة الحياة مفضية إلى تحول فى مسارات البشر عبر أفلاك الكون وأراضيه، سيكبر عمر وغالبا سيصبح "أوفا" ذلك الفتى الهامشى فى النصف الأول من إعلانات البنك التى تطل علينا عبر الشاشات فى شهر رمضان.

سيبدأ "أوفا" فى الظهور تائها حائرا باحثا عن مقعد شاغر أو لحظة تفرد يُنعم بها عليه من حوله، لن يفوز بها وسيُصر الجميع على أن يكون مستمعا ومندهشا ثم كفى، ولن يخلو بنفسه لو أراد، حتى فى تلك الأماكن التى هى بطبيعتها تحتاج إلى ذلك، سيكون كومبارسا صامتا، واقفا دائما على أقصى يسار الكادر، منطفئ العيون فى جوار حضور متنوع يتحدث ويتحرك ويفعل، بينما هو يتأفف، لكنه دوما وفى النهاية ينتظر ما يقرره الآخرون بشأنه.

فى إعلانات النصف الثاني من رمضان، سينتخب المشاهدون أوفا، وسيتحدثون كثيرا عنه، سيمنحونه وصف ذلك الغائب تعمدا، سيبدون إعجابا به على تويتر وفيس بوك، سيذكرون "أوفا" كثيرا ويحكون قصته تعاطفا يفضى إلى حب، وسيصدقون روايته التى يتحدث بها صمته عن السير فى الحياة هامشا خفيفا لا يُرى، لن يصرحوا أبدا بأنها بعض حكايات أعمارهم، فقط مع تفاصيل أكبر أو أقل قليلا هنا أو هناك، تفاصيل تثبت عموم المشهد وجوهر الحكاية.

سيحفز ذلك الطلب الجماهيري المخرج والبنك والإعلانات على بناء صورة أوفا أخرى نسبيا تظهرها الشاشات، وسيقررون – أولئك المتنفذين- منحه قدرا من التعبير عن النفس، لن ينتهى شر رمضان إلا وقد أصبح أوفا ذاته نجم حملة الإعلانات، سيتحدث أكثر وسيحضر فى مركز مشاهد التصوير، وسيتم تركيب لافتات الطرق الإعلانية من أجله، ليصبح جميع من حوله هم هوامش متنه الجديد، نجما، سيقول المشاهدون فى دواخلهم - فرحين بانتصارهم الإعلاني- بينما يحلمون بالنصيب المشابه: أنظر إنها حكمة الحياة ولزوم دوران الأيام على البشر وتسيير المقادير ودواعي الصبر والانتظار والكرم إذ يتجلى على الصامتين والمهمشين " وربك لما يريد" .

فى مجال تسعير الناس أجرا ومكانة ستمنحنا الدلائل الكثيرة أن الإعلانات أصدق أنباء من الكتب ومن الصحف ومن كثير من البشر، سيحصل أوفا على سعر أعلى كثيرا، وسيقوم الكتاب الجاهزون بالتقاطه من الشاشة وتركيب وجهه على فيلم أو مسلسل جديد، سيكون تحقق أوفا موالا جديدا فى الصبر فى هذا البر من الكون، وتصديقا لحكايات الأسلاف "عن اللى صبر ونال من بعد صبر سنين"، وسيمنح ارتياحا جما لكل أولئك الذين عاشوا قسطا كبيرا من حياة " أوفا"، في النهاية سيصير رمزا دالا لن يستغرقوا في تفسيره بل سيدخلونه الحياة لحما وصوتا وفؤادا، معادلة جميلة تعويضية عن كل أزمنة البشر الصعبة حين طلبت ثم لم تشاهد ما طلبت.

فى الحياة يعيش الكثير من البشر حياة أوفا أو بعضا منها، يحملون شيئا من ملامحه وسلوكه، يسعون وينتظرون، فربما يأتي النصف الثانى من الإعلانات أو الحياة حاملا البُشرى، وربما يسعف بعضهم الذكرى التي تنفع المتذكرين صبرا، مستحضرين مقولة القاص يحيى الطاهر عبد الله متحدثا عن كل "أوفا": "ومثلى فى هذه الحياة إن لم يتحايل على المرور من خرم إبره مات ميتة الكلب الجربان"، وسيواصل الناس منح "أوفات" كثيرين أصواتهم على الفيس وتويتر، من يشبهونهم فى أحلامهم وصمتهم وانتظارهم وترقبهم لساعة تحقق أو رجاء "تعويض" ولو آجل.

تسألون عن "أمل"، ستظل هناك حيث بدأت، بعيدة عن إرهاق الحياة وتزاحمها، تظل تلك الطفلة الصغيرة الجالسة معك في ذاكرة مقاعد دراسة الطفولة، تحتفظ بها كزهرة مطوية فى كتاب مدرسى، تمعن فى استرجاع صورتها وهى "تعزم" عليك بساندوتش الجبنة الرومى، بينما تتأمل شغوفا طيبا شعرها الطويل المنساب، ستكبر أنت وتتغير الأشياء التى من حولك كثيرا، لكنك ستصر على تثبيت عمر أمل، لتحتفظ بحضورها المغاير فى مخيلة البقاء اسما ورسما ودلالة على مواصلة السعى فى العالم كحرفة بشرية أولى، تظل حافزا يقول إن هناك أشياء طيبة فى الكون، عرفناها وأحببناها، وربما لازالت تنتظر.

إعلان