إعلان

رسائل العاشق أمل دنقل

رسائل العاشق أمل دنقل

محمد شعير
08:56 م الخميس 15 يونيو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

محمد شعير

أتاحت لى الصديقة عبلة الروينى الاطلاع على مجموعة من الرسائل التي كتبها لها الشاعر أمل دنقل في فترات متقطعة قبل زواجهما. وقد نشرت عبلة بعض مقاطع من هذه الرسائل في كتابها "الجنوبي" أحد أعذب كتب السيرة الذاتية فى الثقافة العربية، وظل بعضها غير منشور حتى الآن. رسائل "أمل" استثنائية هو شاعر يرى أن النثر قد يستهلك روحه الشعرية. كما قال في واحدة من هذه الرسائل، ولذا نادرا ما كان يكتب المقالات النقدية. 

تقدم رسائل أمل إلى عبلة وجها من الوجوه التي تكاد تكون مجهولة لكثيرين: وجه العاشق. وهو وجه ظل حريصا على إخفائه دائما.. خاصة أنه صنع أسطورته الشعرية بوصفه واحداً من الذين اختاروا الوقوف على هامش المؤسسة الاجتماعية والثقافية والسياسية بانتمائه إلى فضاء الشارع. يكتب فى إحدى الرسائل:" لقد ظللت حتى أعوام قليلة أرفض أن آكل الحلوى، وأنها في نظري لا ترتبط بالرجولة، وظللت لا أقبل كلمة رقيقة من امرأة؛ لأنني أضطر عندئذ إلى الترقق معها وهذا يعني إحساس التودد لها، وهو يمثل الضعف الذي لا يُغتفر، وقد لا تعرفين أنني ظللت إلى عهد قريب أخجل من كوني شاعرًا؛ لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة، وفجأة ها أنت تطلبين مني دفعة واحدة أن أصير رقيقا وهادئا وناعما يعرف كيف ينمّق الكلمات". 

رسائل أمل غير مؤرخة، لكنه أرسلها فى الفترة التى شهدت قصة حبهما، وكانت تلك الفترة شهدت العديد من الخلافات الشخصية بينهما، والعديد من المشاكسات.. يكتب: " ظللنا فترة طويلة نبحث عن شكل مريح للحب بيننا، ولم نجده في أغلب الأحيان، فما نكاد نلتقي إلا ونتشاجر، وكأن ما بيننا غضبا وعنادًا ساطعًا. كنا أشبه بالمتنافرين دائما نتكسر في الطرقات الممدودة أبعادا مختلفة فتجمعنا الأشلاء في استمرار معاند. في لحظة نحشو العالم في جيوبنا ونلملم كل الأوراق الخضراء، وصوت العصافير والأقلام الملونة ثم بلحظة أخرى نمزق جميع الأوراق ونذبح صوت العصافير ونكسر جميع الأقلام الملونة والدفاتر".

كانت الرسائل وسيلة للصلح بعد كل أزمة عنيفة ذات مرة، وإثر خلاف حاد بينهما اتجه أمل إلى مكتب البريد وأرسل إلى عبلة برقية عاجلة: "الآنسة عبلة الروينى.. صفحة المسرح بجريدة الأخبار: أرجو إرسال 35 جرام ثقة، التفاهم مطلوب، مع إلغاء التفكير السابق.. اخطرونا تلغرافيا.. أمل". تقول عبلة:" كانت الخلافات بسبب الاختلاف فى وجهات النظر بيننا، عالمى ليس كعالمه، ورؤيته وتجربته وعالمه مختلف عن عالمي.. ومن هنا نشأ الخلاف". 

عبلة تري أن أمل لم يكن حادا كما يتصور البعض لهذه الدرجة، كان العنف قناعًا يخفي به ضعفه الإنساني. الرقة عند أمل هى شعور إنساني عميق، هى نبل المشاعر. عندما جاءت فيروز إلى القاهرة لتغنى فى عام 1976، ذهبت عبلة إلى البروفة العامة لتقوم بتغطيتها لجريدة الأخبار، بدأت البروفات متأخرا، وفى الساعة الواحدة طلبت عبلة أن تنصرف، حيث تسكن بعيدا، والوقت متأخر ولايزال متبقيا اكثر من ساعتين من غناء فيروز... طلبت من أمل أن يقوم معها لتوصيلها.. نظر إليها: " هو لازم أوصلك.. ولا ممكن أقعد اسمع فيروز"!

ومرة أخري عندما علم أنها ستذهب لكى تجرى حوارا مع محمد عبد الوهاب، تحمس لمقابلته معها. وكانت حجته أن سيذهب معها كمصور. كانت تمتلك كاميرا فقيرة رخيصة يستخدمها الأطفال، عندما دخل على عبد الوهاب بدأ في ممارسة دور المصور، وعبد لوهاب ينظر إلى هذا الشخص نظرة ريبة، وإلى كاميرا الأطفال التى يلتقط بها الصور. 

عندما كتب أمل قصيدته الشهيرة "مقابلة خاصة مع ابن نوح" أعطاها إلى عبلة قال لها: هذه أول قصيدة أكتبها إليك. اندهشت فالقصيدة تحمل رؤية سياسية بالأساس، هى غير موجودة فيها. قالت: ولكنى لست فيها. يضحك ويقرأ: (يرقد الآن تحت بقايا المدينة / وردة من عطن /بعد أن قال لا للسفينة/ وأحب الوطن). 

كان ذلك فى عام 1978، فى تلك الفترة كانت سياسات الانفتاح قد بدأت، ومعركة الدولة مع "المثقفين" مستمرة ومتصاعدة، وقد فضل الكثير من المثقفين فى الخروج، فيما عرف بالتغريبة الكبرى للثقافة المصرية، أو حسب تعبير أمل دنقل نفسه "الثقافة المصرية فى المنفي". 

كان الخروج "نجاة"..فى تلك الفترة أرسل إليه طلال سلمان يدعوه للعمل فى جريدة السفير اللبنانية. فكر أمل مليا فى الأمر، وخاصة أن العرض كان مغريا، كما أن عددا من المثقفين المصرين كان قد سبقه للاستقرار فى بيروت. ولكن فكرة السفر شكلت لعبلة أزمة نفسية " ليس فقط لأنه من المكن أن يدمر علاقة الحب بل لأنه سيعود بنا مرة أخرى إلى البداية أو يلقى بنا إلى المنتهي، حين نبدأ بالفشل". ولكن أمل اختار أن يقول "لا" للسفينة ويحب الوطن.

لم يكن الخلاف بين أمل وعبلة فى طريقة التعبير عن المشاعر والحب، وإنما امتد - أحيانا- إلى السياسة، عندما كتب أمل قصيدته الشهيرة "خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين" سأل عبلة عن رأيها فى القصيدة.. أجابت: لا أستطيع أن أعجب بقصيدة تدين عبد الناصر. قال لها: "إنني لا أكره عبد الناصر، ولكن في تقديري دائماً أن المناخ الذي يعتقل كاتباً أو مفكراً لا يصح أن أنتمي إليه أو أدافع عنه، إن قضيتي ليست عبد الناصر حتى لو أحببته ولكن قضيتي دائماً هي الحرية".

إعلان