إعلان

يسري فوده: ماذا سيقول "عمران" حين يكبر؟

الطفل السوري عمران

يسري فوده: ماذا سيقول "عمران" حين يكبر؟

11:59 ص الأحد 28 أغسطس 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - يسري فودة:

بعد انتشار الجدل حول انتشار صورة الطفل السوري، عمران دقنيش، يسري فوده يتخيل في هذا المقال ماذا سيقول عمران بعد عشرين سنة من اليوم.

صباح الجمعة، التاسع من يونيو 1972، هرول كبير موظفي البيت الأبيض وفي يده نسخة من صحيفة "نيويورك تايمز" إلى الرئيس الأمريكي آنذاك، ريتشارد نيكسون. نظر هذا إلى الصحيفة فلم ير شيئًا غير عادي على صدرها، لكنّ مغناطيسًا جذبه إلى أسفلها الأيسر.. إلى أبعد نقطة من أسفلها الأيسر حيث صورة صادمة لطفلة عارية آسيوية الملامح تهرع لحياتها بين وجوه أخرى مذعورة.

لابد أن بصره زاغ سريعًا إلى التعليق المكتوب أسفلها ثم إلى العنوان المكتوب فوقها: "طائرات B-52 تقصف فييتنام الشمالية للمرة الأولى خلال سبعة أسابيع". و لابد أن بصره عاد سريعًا مرة أخرى إلى الصورة كي يتمعّن في التفاصيل.

"هل قام أحدهم بتركيب هذه الصورة؟" كان هذا التساؤل - الذي سُرّب بعد ذلك في شريط صوتي - رد فعل رئيس مثخن عندئذٍ بجراح من صنع يديه. هكذا يفكر دائمًا الهاربون من إدانة الضمير ومن الإحساس بالذنب ومن ضياع المصالح عن طريق إنكار الواقع. لكنها دائمًا إحدى آليات "الدفاع عن الذات" التي لا تصمد طويلًا، وهذا من لطف الله بالبشر.

أما الصورة فهي للطفلة الفييتنامية "كيم فوك" بعد هجوم بالنابالم على قريتها، قيل إنه "نيران صديقة". عندما أبرقت وكالة أنباء أسوشييتدبرس بهذه الصورة التي التقطها مصورها "نيك أوت"، اجتمعت هيئة التحرير في الصحيفة الأمريكية الكبرى ودار جدل كبير من نوع الجدل الذي لا يزال موجودًا في غرف الأخبار حتى اليوم. هل يصح أن ننشر صورة لطفلة لم تتعد التاسعة لم يستأذنها أحد؟ هل يصح أن ننشر صورتها عارية؟ هل يصح أن ننشر صورتها في لحظة ذعر؟ هل يصح أن ننشر صورتها في موقف قد "يحط من كرامة الإنسان"؟ ماذا يمكن أن يكون موقفها بين الناس حين تكبر؟

هذه كلها أسئلة مشروعة تثبت مدى صعوبة التعامل مع خيارات تحريرية من هذا النوع. لكنّ الرأي اجتمع في النهاية على ضرورة نشر الصورة كي يقف العالم على حقيقة ما يحدث. انتشرت الصورة بعد ذلك انتشار النار في الهشيم وحصلت على جائزة بوليتزر، أرفع جائزة صحفية في العالم.

من بين هذه الأسئلة المشروعة كلها، يقفز أمامنا السؤال الأخير: ماذا يمكن أن يكون موقفها بين الناس حين تكبر؟ هذا سؤال يبدو أخلاقيًّا إلى أبعد حد، لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون ديكتاتوريًّا إلى أبعد حد. و أمامه يبرز سؤال آخر مشروع: من يملك حق الحديث باسم طفل لا يستطيع اتخاذ قرار في أمر ما؟ السؤال موجه للطرفين: المؤيد و المعارض؛ فحجة التبرير لدى أي منهما تنطلق دائمًا من منظور شخصي، و أحيانًا تقف وراءها دوافع سياسية.

لسوء الحظ، لا تأتينا إجابة من صاحب الشأن نفسه إذا كانت الصورة لضحية فقدت حياتها أو اختفت في غياهب الحياة. ولحسن الحظ، كبرت "كيم فوك" وقدمت لنا إجابة يمكن أن تساعدنا في هذا الجدل، ويمكن أن تقطع الطريق على من يحاول الحديث باسم من لا يستطيع الحديث، سواءٌ عن حسن نية أو عن سوء نية.

لم تكتف الطفلة حين كبرت بشكر من التقط الصورة ومن نشرها فحسب، بل إنها ساهمت أيضًا في حسم جدلية مهنية تحريرية حول مدى وجوب الانتصار لنقل الواقع كما هو، وانتقدت الرئيس الأمريكي لتشكيكه في صدقية الصورة: "هذه الصورة حقيقية كحقيقة الحرب في فييتنام.. ولم يكن أحد في حاجة إلى تركيب صورة لي لتوثيق أهوال الحرب".

ماذا إذًا سيقول الطفل السوري، "عمران دقنيش"، حين يكبر؟ ربما يتفق موقفه مع موقف "كيم فوك"، وربما يلعننا جميعًا، وربما يتفق بتحفظ. هذه هي الاحتمالات الثلاثة المتاحة. ورغم أنني أرجح الاحتمال الأول فلابد من محاولة فهم الأسباب، لأن هذه تختلف من حالة إلى أخرى.

أولًا: الأصل في التصوير الصحفي - مثلما هو الأصل في الإعلام بشكل عام - هو أن كل شيئ متاح للتصوير في المجال العام مادمت لم تخترق خصوصية أحد في منزله أو محل عمله، ومادمت تلتزم بالقانون والأخلاق العامة. وحتى هذه لها استثناءات مبررة في بعض الحالات.

ثانيًا: بافتراض حسن النية، يوثق المصور الحدث بأكبر قدر ممكن من الدقة، بشرط ألا تغلب نظرتُه الفنية نظرتَه الصحفية. وبافتراض حسن النية، يختار رئيس التحرير من بين الصور ما يرى أنه يعكس الواقع، بشرط ألا يستخدمها في غير سياقها الذي وردت فيه.

ثالثًا: لا يسجل تاريخ الصورة الصحفية علاقة إيجابية بالضرورة بين "كم" الدم و البشاعة، من ناحية، و مدى تأثير الصورة في الناس، من ناحية أخرى. هناك أسباب أخرى لهذا يعرفها المصور المحترف و يدركها رئيس التحرير الذكي.

رابعًا: بافتراض حسن النية مرةً أخرى، يضع المصور و رئيس التحرير نفسيهما - و هما بشر يخطئ و يصيب على أية حال - في موضع "الضحية". و عليك أنت أيضًا أن تفعل الشيئ نفسه. هذا هو السؤال الفاصل: لو كنت أنت "عمران" هل كنت توافق على نشر صورتك بهذا الشكل؟

"كنت في المنزل مع أمي و أبي و إخوتي، ثم فجأة لم أر شيئًا. سمعت انفجارًا قويًّا لم أر بعده شيئًا و لم أشعر بشيئ. فجأة، ظلام دامس و تراب .. تراب كثير .. و لا أدري ما حدث. لا أدري كم مر عليّ من الوقت لكنني حين أفقت لم أجد أمي و لا أبي و لا إخوتي. وجدت فقط مكانًا ضيقًا .. ضيقًا جدًا، لا أدري لماذا، ولا لماذا كل هذه الأحجار التي تحيط بي. بينما أنا هكذا سمعت أصواتًا مختلطة تأتيني من مكان ما .. من فوقي. أميييي .. أبيييي .. صرخت، لكنّ أحدًا لم يرد. ثم فجأة تسلل شعاع من ضوء بين الأحجار و سمعت جلبة كبيرة انفتحت بعدها الدنيا و حملني رجل إلى سيارة إسعاف وسط تهليلات و أنوار كثيرة و تليفزيونات". هكذا أتخيل عمران الآن.

وهكذا أتخيله بعد عشرين سنة: "الحمد لله، لولا ذلك الرجل الذي انتشلني من بين الأنقاض، ولولا ذلك المسعف الذي هرول بي إلى المستشفى لربما كنت من وقتها عظامًا تحت التراب. ولولا ذلك المصور لما وصلت قصتي إلى العالم. ولولا الذين رأوا في وجهي مأساة إنسانية بعيدًا عن أي اعتبار آخر لما التفت الجهلاء إلى جرائم نظام يستعين على شعبه بالقنابل التفريغية والبرميلية والكيماوية. لقد لقي النظام جزاءه بعدها بفترة، لكنه لقي جزاءه المستحق. لا شيئ يمكن أن يغير الماضي، لكنني بعد هذه السنوات كلها تعلمت أن فطرة الحق غلّابة دائمًا، و أن الحق لا يحتاج إلى كثير من الكلمات، و أن العدل أقوى من الانتقام، و أن الصفح يكتب للإنسان حياةً جديدة".

هذا تصور شخصي من جانبي، قد يخطئ و قد يصيب. و قبل أن أسألك أن تضع نفسك أنت مكان عمران، أسال نفسي و أجيب: شكرًا لكل من ساهم في وصول قصتي إلى العالم.

إعلان