إعلان

14 أغسطس.. حادثة وذكرى وعِبرة..!

ذكرى تحطم طائرة (2)

14 أغسطس.. حادثة وذكرى وعِبرة..!

11:59 ص الإثنين 15 أغسطس 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد أحمد فؤاد:

الحادثة..
ليطمئن عزيزي القارئ.. فهذا المقال لن يأخذه إلى حادثة هذا التاريخ المشئوم 14 اغسطس من العام 2013.. العام الذي شهد أكبر فتنة دينية وسياسية في تاريخ مصر المعاصر، تلك التي صنعها مجموعة من الطغاة وعتاة المجرمين فضلوا مجدهم الشخصي وتشبثهم بالسلطة على دماء أبرياء غرروا بهم وقدموهم كقرابين حية للحصول على مجد زائف ومكاسب سياسية.. وها هي الدماء البريئة تختلط ويعجز التاريخ حتى كتابة تلك السطور عن الفصل فيها..!

الذكرى..
نحن بصدد ذكرى تعود للعام 1958.. تحديداً 14 أغسطس 1958 حين فقدت أجهزة الرادار الاتصال مع الطائرة طراز لوكهيد سوبر كوني التابعة للخطوط الملكية الهولندية رحلة رقم 607 القادمة من بروكسل في إتجاه نيويورك عبر مطار أمستردام في هولندا ثم مطار شانون في أيرلندا.. أقلعت الطائرة بعد التوقف الثاني لها من مطار شانون في الساعة 03:05 صباح الخميس 14 أغسطس 1958 وعلى متنها طاقم الطائرة الهولندي المكون من ثمانية افراد، و91 راكبا من جنسيات مختلفة بينهم أبطال الفريق القومي المصري للمبارزة ونحتسبهم جميعاً من الشهداء، الكابتن عثمان عبد الحفيظ والكابتن محمد علي رياض والكابتن حسن رشاد والكابتن عبد المنعم الحسيني والكابتن أحمد صبري والكابتن مصطفى زيان والكابتن محمد فتحي الأشقر والكابتن أندريه تيللي.. اختفت الطائرة من على شاشات الرادار في الساعة 03:45، وبدأت فرق الإنقاذ سريعاً في تمشيط المنطقة حتى تم رصد ومضات ضوئية على سطح المحيط الأطلسي على مسافة 180 كيلومتر غرب مطار شانون بالقرب من الساحل الأيرلندي.. مما أكد الخبر المشئوم بتحطم الطائرة بالقرب من الساحل الغربي لأيرلندا..  

تم العثور على حطام الطائرة، وساهمت الأمواج والتيار القوي في إعادة 32 جثمان للضحايا من أصل 99 راكبا كانوا على متن الطائرة المنكوبة، وأوفدت الحكومة المصرية حينها السيد/ محمود يونس رئيس نادي السلاح المصري، والصاغ/ صلاح دسوقي سكرتير النادي لمعاينة جثامين الضحايا على أمل التعرف على أصحابها، ولم يتم التأكد بصورة قطعية إلا على جثامين 12 فقط ليس من بينهم أحد أبطالنا الشهداء..!

وكانت السلطات الأيرلندية قد قررت دفن جثامين الضحايا الذين لم يتم التعرف عليهم في مقابر مرتفعات سانت ماري يوم الثلاثاء 19 أغسطس 1958.. وحينها حدث ارتباك بشأن كيفة التجهيز للطقوس الدينية التي يجب اتباعها قبل وأثناء وبعد دفن الجثامين التي لم يتم التعرف عليها مع انتماء الضحايا لمعتقدات دينية مختلفة.. وظهرت تلك المشكلة بوضوح حين لم يستطع أحدهم طرح تصور لكيفية اجراء مراسم جنازة جماعية لضحايا ينتمون لديانات مختلفة..؟ كان الأمر شديد الحساسية، والظرف دقيق للسلطات الرسمية أمام ذوي الضحايا وعائلاتهم مع ضرورة احترام مشاعر الجميع بلا أدنى تفرقة أو تمييز، فهؤلاء الأبرياء إختلفوا في معتقداتهم ومذاهبهم حتى جمعهم الموت..

تم توجيه الدعوة لرجال دين أحدهم القس/ كانون ب. جلين وبعض الرهبان من كنيسة سان جوزيف في جالاوي، ومن الطائفة اليهودية هناك، وكذلك الإرسالية المسلمة في واكينج بالعاصمة البريطانية لندن وقد مثلها اثناء مراسم الجنازة السيد/ إقبال أحمد إمام مسجد شاه جيهان، والذي لعب دوراً هاماً في الخروج بالحدث الجلل في أرقى صورة ممكنة نجحت في أن تعكس روح الإسلام المتسامحة والرؤية الدينية الشاملة والمتحضرة التي تتجلى في احترام الدين الإسلامي للإنسان والإنسانية دون أدنى تمييز أو تفرقة..  وهي أصول ربما بدت غائبة تماماً في تلك السنوات الأخيرة التي حملت لنا من الأحقاد والخلافات ما يكفي لفرض حالة من التوجس والذعر العام من كل ما هو ديني أو متدين..!

قدم السيد / إقبال أحمد اقتراحين لآداء مراسم الجنازة، أولهما هو تلاوة ترجمة كاملة لنصوص صلوات الجنازة في الديانات المختلفة لتحديد المغزى الرئيسي من وراء تلك الصلوات.. فإتفق للجميع على أن الصلاة يراد بها استغفار الله للمتوفى والدعاء لذويه ولأسرته بالصبر، وهكذا اتفق الجميع على توحيد صيغة الصلاة المخصصة لتلك الجنازة في هذا المعنى.. ثم جاء الاقتراح الثاني من السيد/ إقبال أحمد بأن تتم الصلاة على الضحايا بما هو متبع في الأديان السماوية على أن يكون ترتيب الصلوات بترتيب نزول الأديان المعروف للجميع بداية باليهودية ثم المسيحية ثم الإسلام..  ووفقاً لهذا النظام خرجت مراسم الجنازة الدينية بالإضافة إلى جنازة عسكرية رمزية نظمتها السلطات الرسمية في ايرلندا في شكل لائق بحدث جلل يوفر الاحترام والإجلال للضحايا وذويهم ومعتقدداتهم المختلفة..

العبرة..
التعصب آفة العصر، وهو كلمة السر وراء تراجع القيم منذ أن عزف رجال الدين على مذاهبهم عن محاولات التقريب والإصلاح بين البشر على اختلاف معتقداتهم، وانصرفوا لبيع حصص الرحمة والرزق وصكوك الغفران في حوانيتهم التي كانت تسمى يوماً مساجد وكنائس.. الأديان والمذاهب لا تجعل الإنسان نجساً بطبيعته أو طاهراً بطبيعته، وهي لا تطلب من الإنسان أياً كان معتقده الديني إلا ما تقتضيه إنسانيته، وهي لا تستلزم بالضرورة أن يكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، ولكن كل ما تستلزمه أن يكون عضواً فاعلاً في بنية الهيئة الاجتماعية المحيطة به، وأن يكون مفيداً قدر المستطاع، وقد حدث أن ارتدت أمور الدين من العقل إلى الزاويا الضيقة بعيداً عن مشاغل الحياة وعلاقة الإنسان بالإنسان، ومن الاهتمام بالأرض إلى بقاع مقصورة على دور العبادة المزيفة وحوانيت الإتجار بالأخلاق.. وهكذا، كلما انحسر الدين في صورته المتعصبة في بقعة عادت مجال وفاق ووئام واحترام بعد أن كانت مجال للإحتراب والخصومة..!

إعلان