إعلان

رف السينما - (اشتباك) .. الشعب المصري كما يريدنا آل (دياب) أن نراه

اشتباك

رف السينما - (اشتباك) .. الشعب المصري كما يريدنا آل (دياب) أن نراه

08:55 م الأحد 31 يوليه 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم – ممدوح صلاح: 

كان من المتوقع أن يصاحب ظهور فيلم اشتباك للعرض العام ضجة كبيرة، على الأقل في أوساط المهتمين بالسينما، بسبب عرضه في افتتاح قسم (نظرة ما) في مهرجان (كان) وما صاحبه من حملة هجومية وصلت إلى التلفزيون المصرى الرسمي كعادة الهجمات التى تصيب كل ما يحمل رائحة الثورة ولو من بعيد... لكن ما كان من غير المتوقع هو أن الضجة جاء معظمها من الحملة الدعائية المثيرة للجدل التى قادها صناع الفيلم أنفسهم على مواقع التواصل الإجتماعي، والتي حولت الفيلم – من منظورهم – إلى قضية تستحق الدعم والإصطفاف من أجلها، وهو ما آراه يضر بالفيلم وردود الأفعال حوله.

يقدم السيناريو رؤية واقعية تنتقل سريعاً إلى الرمزية، حينما يجمع أشخاص ممثلون للطوائف المصرية المتعارضة بداخل سيارة ترحيلات واحدة، ويدور الفيلم بالكامل من داخل تلك السيارة المزدحمة.. حتى اللقطات التى تصور لنا ما يحدث بالخارج كنا نراها من الشبابيك الصغيرة المحيطة بالأبطال.

لا يرغب المخرج في تصدير تاريخ محدد للأحداث، وهو ما سبب نوعاً من الإرباك؛ فعلى لسان أحد الشخصيات يشير الفيلم لحادثة موت 37 سجين في سيارة ترحيلات مشابهة بإعتبارها حدثت منذ أيام ... وهي في الحقيقة حدثت في 18 أغسطس 2013 أي بعد فض إعتصامي رابعة والنهضة، بينما يبدوا من تركيبة أحداث الفيلم وتفاعلات شخصياته أنه يدور في المظاهرات التى تلت عزل (محمد مرسي) مباشرة، أي قبل فض الإعتصامين بوقت كبير! ... إذن الأرجح، إن لم يكن هناك سقطة في التواريخ، أن المؤلفين حررا حادث سيارة الترحيلات من إطارها الزمني الدقيق وجعلها مجرد مثال في المجرى الزمني الخاص بالفيلم، وهو إختيار فني عجيب بالنسبة لفيلم يرتبط مباشرة بالواقع السياسي، ويُتوقع منه أن يكون دقيقاً في عرض المتغيرات وتوقيتاتها، بالذات وهو يعبر عن أحداث معاصرة عاشها الجمهور.

أهمية توقيت الأحداث هنا تتجاوز المطالبة بالدقة التاريخية، لأن الكتلة المكونة لكل جبهة سياسية كانت تتغير باستمرار في تلك الفترة، فمتظاهري 3/7 المناهضين للإخوان مختلفين – ولو جزئياً - عن متظاهري التفويض، ومختلفين أكثر عن المظاهرات المؤيدة ما بعد فض الاعتصامين ... ولا يمكن للفيلم ببساطة أن يضعهم جميعاً في سلة واحدة، ورؤيتنا لمعظم الشخصيات ودوافعها وأفعالها ستختلف بالتبعية بحسب زمن حدوث القصة .. فلا يمكن بأي حال مثلاً وضع الأهالي الرافضين للإخوان في مواجهة الفصيل المنظم المدرب وكأنهم خصوم متساوية اختارت مسارها السياسي بعناية، أضرب المثال هنا بالأسرة الصغيرة وبالشابين العاطلين عن العمل الذين يبدو وكأنهم في مظاهرات عفوية وليدة الظرف السياسي.

الانطباع الأولي الذى خرجت به من الفيلم كانت الجملة التي جاءت على لسان (سعيد صالح) في (العيال كبرت)، وهو أن الفيلم فيه "كل حاجة سليمة .. بس لوحدها"...

فالسيناريو والحوار متفوق، تتحرك فيه الاحداث بمنطقية وسلاسة ويظهر موهبة الأخوين دياب في صياغة جمل حوارية نابضة بالحياة ما إن يبتعدا عن السياسة، والجوانب التقنية كالمونتاج والتصوير تستحق الإشادة ... والتمثيل كذلك يشى بالتزام وقدرات ممثلين كـ (مي الغيطي) و(خالد كمال) و(أحمد مالك)، وغيرهم من الأسماء المعروفة وغير المعروفة الذين كانوا جميعاً على مستوى كبير من الإجادة والإخلاص.

ومع ذلك كله تخرج من قاعة العرض شاعراً بأن هناك شيئاً كبيراً ناقصاً! وبأن الفيلم أضاع فرصة ضخمة صنعها لنفسه بأن يكون أفضل من ذلك بكثير ...

الخيوط المفتقدة التى كانت ستقوي تجربة المشاهدة إذا تم تضفيرها بعناية هي الرؤية المنظورية للأحداث ... فبالرغم من أن الكاميرا تبقى بداخل السيارة وكأن المشاهد هو سجين آخر يتم ترحيله ومحمل بنفس الزخم السياسى للأبطال الذى يجعله يتفهمهم ويشاهدهم عن قرب، إلا أن الفيلم في الحقيقة ينظر لأبطاله – وللمشاهد بالتبعية - من الخارج، ومن أعلى أيضاً! وكأنهم حيوانات يتصارعون على فريسة أو بكتيريا يدرسها تحت الميكروسكوب، ولا دليل على هذا أكثر من نهاية الفيلم نفسها ... هذا النوع من الفوقية الإنسانية يمنع أي (اشتباك) حقيقي من صانع الفيلم مع شخصياته وأفكارها، فقط ينزل ليتعاطف معها بالصورة والصوت حينما تتحدث عن أحلامها الإنسانية أو تعبر عن رغبتها في الفرار من هذا العنف لموسيقاهم المفضلة (وهو من أحلى مشاهد الفيلم)، ثم يعود للتراجع من جديد لموقع المراقبة والحكم حينما تبدأ السياسة في الظهور مجدداً.

لم أفهم مطلقاً وجهة نظر الفيلم التى تصر على التعاطف مع الجميع .. القاتل والمقتول، والجاني والمجني عليه .. ولا أرى في هذا حكمة بوذية أو حتى رومانسية حالمة و تسامحاً أسطورياً لا يليق بالبشر ... بل أرى فيه عبثية شديدة ومنطق لا يستقيم.

لم أفهم ما الذى يريدنا (محمد دياب) أن نكونه لننجو؟ ولا ما الذى قد يغيره الفيديو الذى صورته شخصية (هاني عادل) في نفوس الملايين كما يقول؟ ... هل النجاة تأتي من اللحظات الكوميدية العفوية المتناثرة في الفيلم؟ وهل تُحل الصراعات السياسية والأيديولوجية العميقة التى تصل لحد القتل بين الإخوان والثوار والمتربحين من النظام ومؤيدي الحكم العسكري والمواطنين الشرفاء إذا توافق الجميع في (قعدة سمر) وغنوا في لحظة تآلف أغنية لـ "إليسا" ؟! فعلاً!!

هذا النوع من الخيال هو الذى يجعل الفيلم ينزلق أحياناً للمباشرة الشديدة، حين يخبرنا أن الأبطال برغم اختلافاتهم الجذرية إلا أنهم جميعاً يتوحدون حول تشجيع الأهلى والزمالك، أو أن الشاب المرفه القادم من التجمع يمكنه أن يشترك مع سائس السيارات في رفقهم بالحيوان ... وغيرها من الثنائيات التى تنتج مواقف وحوارات مفتعلة كديانة مجند الشرطة المسيحي، أو كأن يسأل ذلك الشاب فجأة عن مكان سكن السائس ليكتشف أنه يعيش في الشارع .. ويتجاوز الفيلم ذلك لدرجة أبعد في المبالغة (التعاطفية)، حيث يصدمك مشهد قتل ضابط الشرطة فتتعاطف معه، ثم يفاجئك بمشهد تالي يموت فيه القاتل ضرباً، وقد اختار لتمثيل ذلك الدور الصغير ممثل معروف ببراءة ملامحه كـ (محمد عادل)، لا يوجد أي سبب لوجوده هنا إلا ليوحي بأن الفيلم يريدك أيضاً أن تتعاطف مع القاتل الذى فتح النار على الجميع.

هنا تبرز لنا المشكلة الأكبر في مصائر الشخصيات حتى لو مددنا هذا الخط الإنساني على استقامته، وهى أشبه بالمعضلات المنطقية التى تتعارض مع نفسها داخلياً، ولنسميها (معضلة قدرة الأبطال)..

فالأبطال هنا يبدو وكأنهم محكوم عليهم بالهلاك، ومرغمون على مسار محتوم وقدري لا يمكن لهم فعل أي شيء لوقفه مهما كانت تصرفاتهم... فالعدو الذى يقابلهم في النهاية هو عدو "خارجي" ممثل في الجموع الهيستيرية الغاضبة، ولكن قد يحتج صناع الفيلم بأنه في نفس الوقت عدو "داخلي" بإفتراض أن الأبطال كذلك جزء وعينة من هذه الجموع .. ومن هنا تأتي المعضلة.

لم يكن بوسع الأبطال فعل أي شيء لإيقاف مصيرهم المحدد سلفاً منذ دخولهم سيارة الترحيلات، وحتى تسامحهم مع بعضهم البعض إنسانياً ونبذ العنف والبحث عن المشتركات لم يكن ليحل شيئاً! ... في النهاية كانوا سيلقون مصيرهم إلى معتقل أو متاهات أمنية قد تدمرهم، أو يقعون في أيدي المتظاهرين الغاضبين من أي من الجانبين.

حلم الخلاص والنجاة تم التلميح به في لحظة واحدة، وقت أن كان بإمكانهم فتح السيارة والهرب إذا تكاتفت الجهود .. وحتى هذا لم يحدث لظرف خارج عن إرادتهم (باب السيارة لم ينكسر)... وحتى لو حدث، ما كان ليحميهم من الملاحقة الأمنية إلا بصدفة خارجية وهي وجود البطاقات الشخصية الخاصة بهم مع المجند الذى تصادف أن انضم إليهم ... من جديد هذا المجند أصبح خصم "خارجي/داخلي" لكنه هذه المرة ممثل للدولة في هيئاتها النظامية كالشرطة، التى يحملها الفيلم في تلك اللحظة ضرورة التسامح وأن تعيد لكل المواطنين بطاقاتهم ليمضى كل منهم في حال سبيله بلا عواقب .. وهذا أيضاً ينزع القدرة عن الأبطال أنفسهم في تحديد المصير.

.. حتى العلاقة التى بدأها الطفل بلعبة (إكس أو) على جدران عربة الترحيلات ليفاجأ بأن شخص مجهول آخر يشاركه اللعب، وتتحول فيما بعد لملاذ عذب وجميل بينه وبين الفتاة السلفية (كما يتضح لاحقاً) بشكل يجعلنا نظن أن الأمل قد يأتي من الجيل الأصغر، لا ينتهي الفيلم قبل أن يخبرنا أن هذه اللعبة قد وصلت إلى نهاية مسدودة!

برغم عيوبه، يثير الفيلم فيك منذ بدايته أجواء لا ترغب في استعادها أياً كان موقعك منها، بخليط من التأثر والكآبة والضحك يغمرك أثناء العرض. ويفاجئك بكثير من المشاهد المشحونة والضاغطة المثيرة للذكريات.. وينتهى بتتابع كابوسي شديد الأصالة بصرياً ويعتبر إضافة من مدير التصوير (أحمد جبر) للمشاهد والصور الأيقونية التى قدمتها السينما المصرية... لكن هذا الأثر اللحظي القوى لا يعني بالضرورة أنه سيخرج معك من قاعة العرض ليستقر في ذهنك وأفكارك.

يحق للمخرج – ولنا – الفخر بالفيلم باعتباره إنجاز تقني واضح، وإنجاز آخر على مستوى وضوح ما يريد أن يقوله في وقت قرر فيه الجميع تجاوز ما حدث في مصر مؤخراً وتجاهله ودفنه، وهو أشبه بشهادة إن لم تكن دقيقة فهي تفتح المجال للمناقشة والتفنيد ... لكن يحق لنا كذلك أن نتعشم في فيلم أكثر نضجاً في التعاطي مع الإنسانيات، تترابط عناصره بشكل أبعد عن رؤية قطبية (مثالية – سوداوية) تتفوق على حالة "الاستقطاب" و"الهيستريا" التى يؤكد الفيلم على أنه يرصدها ويتعامل معها... يظن الفيلم أنه يخاطب الجانب الإنساني بعيداً عن معتركات السياسة، لكن الحقيقة إنه في كثير من الأحيان يتداخل الأمران بشدة. ليست كل الأفكار والأشخاص مظلومين أو مجبرين أو يملكون جانباً مضيئاً يمكن اللجوء إليه، ولا يمكن لا منطقياً ولا درامياً عقد السلام بين (كل) تلك الأفكار المتنافرة جذرياً كحل وحيد حتى لو أصر الفيلم بكل "هيستريا" على ذلك.

إعلان