إعلان

قصة قصيرة: الحمار الحارس!

قصة قصيرة: الحمار الحارس!

09:36 م الجمعة 17 يونيو 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد أحمد فؤاد:

حل الظلام.. وانطفأت أنوار المصباح الوحيد في القرية، وكعادتهم المستجدة أوى جميع السكان إلى مخادعهم مبكرين.. إنها المرة الأولى التي يخيم فيها الشعور بالتعب والانهاك على الجميع.. شيوخ وشباب وأطفال من فرط الإحساس بالتوجس والحيرة.. وكأنهم أسرى مسلوبي الإرادة لا حق لهم في التفكير..!

إنها أوامر العمدة الجديد التي أوشكت أن تقضي على عاداتهم المحببة من الكسل والقنوط والتفاهة.. فالرجل قالها صريحة: لا يصح أن يقضي رجال القرية ونسائها وقتهم الثمين في لهو وعبث وإسراف كعهدهم في الماضي القريب، ولا يجب عليهم التسكع في الطرقات والتنطع على موائد السمر المتناثرة في ربوع القرية، تلك التي ضاقت وضاق بها الحال بعد تراجع مساحات الخضرة والفيئ.. وبعد بوار الأرض وتحولها لغابات أسمنتية كثيفة لا تكاد تتبدى لها معالم، اللهم إلا شبكات معقدة من الأسلاك فوق الأرض وتحتها، وجحافل أطباق استقبال القنوات الفضائية المثبتة بعناية فوق جميع الرؤوس إلا ما رحم ربي...

العمدة الجديد رجل محترم! هكذا همس أحد شيوخ القرية قد طعن في السن في أذن حفيده الشاب أثناء جلوسهما سوياً على سطح هذا المنزل الريفي العجيب كونه الوحيد بلا طبق فضائي، والفريد لأنه مصنوع من مادة نادرة هي الطوب اللبِن الذي تبقى من ذكريات ومخلفات الماضي الجميل الزائل.. مع صوت طقطقة أعواد الحطب الجافة داخل نيران "راكية" الشاي، يأتي رد الحفيد الشاب بهدوء: كيف ذلك يا جدي؟ فهل يُعقل أن يكون الرجل محترماً ونحن فيما نحن فيه من ضيق في العيش وصعوبة في مجرد التنفس! أنظر يا جدي كيف أصبح حال بيتنا الجميل بعد حصاره بغابات الأسمنت التي شيدها رجالاً مثل أبي.. غادرونا منذ سنوات ولم يعد يربطنا بهم إلا دراهم معدودة يرسلونها لنا ولأهلهم بالقرية شهرياً، وكأننا أصبحنا صبية كهول نحيا بالمعاش، ولا نقوى على انتاج ما نحتاجه لنقتات به أو حتى ما نشتهيه..!

ليس هذا فقط، فيوم بعد يوم يضيق الأفق، وتتعاظم نفقاتنا بلا سبب مقنع، ولا نكاد نستطيع التمييز بين حاجتنا من أشياء لا علم لنا إن كانت ضرورية أم أساسية، أم فقط مجرد رفاهية.. أنظر مثلاً ما حدث للأرض من حولنا.. بعد أن كان الزرع على امتداد البصر، وكان السمر يجمعنا دائماً حول جداول الماء المنتشرة في الربوع.. جف الماء، وندر الزرع وأصبح ملاذنا أنت وأنا فقط تلك الزاوية الضيقة فوق سطح منزلنا نهرب فيها من تلوث الأسماع والأبصار، ونتطلع منها إلى ما تبقى بالكاد من مشهد السماء، هذا الذي علمتني يوماً من خلاله تحديد بدايات المواسم ونهاياتها عن طريق حركة النجوم التي لم تعد تتلألأ ربما لحزنها على ما تراه...

الجد مبتسماً: لكن هذا ليس ذنب العمدة الجديد يا بُني، فالرجل أتى وكان الحال في أسوأ صوره.. تذكر كل معاناتنا في عهد العمدة السابق الذي مات ولم يشيعه من أهل القرية لمثواه إلا من ارتبط معه بصفقة أو مصلحة جاءت مع الأسف على حسابنا جميعاً، وبالأخص أنتم ومستقبلكم.. هل تذكر يا بُني أن العمدة السابق هو من حرم القرية من وسائل تطوير المعيشة والإنتاج، هو من ظن أن الرفاهية تتأتى بتوفير وسائل الراحة والترفيه على حساب الإنتاج والتعليم وتحسين الصحة.. كنا في الماضي قبل مجيئه قرية نموذجية يشار لها بالبنان، ننتج كل شيء بلا حدود.. اليوم نحن في هوة سحيقة يصعب الخروج منها، لذا فالعمدة الجديد يحتاج للعون، وهذا ما قاله.. فلا يصلح أن يضيع الوقت والجهد سدى، وعلى الجميع استثمار الطاقة والعمل بجد حتى نتحول لمجتمع متقدم وأكثر تحضرًا..!

فجأة يخترق أصداء الليل صوت نهيق حمار القرية الرسمي.. يحني الجد رأسه بمرارة ليخفي لمحة خجل اعترت وجهه، وينزعج الحفيد وتنتابه موجة من العصبية. فهو يكره هذا الصوت المزعج الذي تم فرضه بالقوة على القرية مع قدوم العمدة الجديد؛ فمنذ أن جاء العمدة، وهو لا يطرب إلا لصوت حماره العجيب. هناك من يقولون أنه حمار مسحور لا يستعصي عليه أمراً، لهذا ولطاعته العمياء وقدراته المتعددة، فهو محل ثقة العمدة دوناً عن كل الحُمُر الأخرى في القرية.. حتى شيخ البلد وشيخ الخفر وشيخ المسجد وأبونا كاهن الدير وناظر المدرسة أنفسهم ينصاعون لصوته ويوقرونه حين يجاهر بالنهيق.!

نظر الجد لحفيده نظرة تحمل الكثير من المعاني، فهو الذي يرى أن كل ما يفعله العمدة الجديد يصب حتماً في الصالح العام، وهو يراه رجل صالح محب لقريته وأهلها، وله من الخبرة ما يمكنه من معرفة بواطن الأمور، وهو يحتاج للمساندة والدعم لحماية القرية من الأشرار الذين يتربصون بها ويأتون من كل حدب وصوب.. لهذا فهو موضع ثقة الجد الكاملة في كل ما يفعله بدون نقاش أو جدل.. ولقد طلبها الرجل صراحة من كبار رجال القرية حين التقاهم لأول مرة منذ توليه المسئولية، مساندة دائمة وسخاء في العطاء وتأييد مطلق بلا نقاش..!

لكن للحفيد رأي مغاير لرأي الجد، فالعمدة من وجهة نظره رجل أتى في ظروف استثنائية، والقرية تمر بظروف صعبة وليس بها من حكماء رجالها إلا قلائل يستطيعون حمل المسئولية، والباقون لا يرون إلا مصالحهم الشخصية فقط.. لكنه بالرغم مما حظى به من قبول لدى أهل القرية، فقد فشل في احتواء خلافاتهم أو في تهذيب شهواتهم، وهو أيضاً أخفق في استيعاب طموحات أبناء الجيل منهم ممن يتطلعون لحياة كريمة فيها من الحرية ما يعوضهم عن سنوات الكبت والمنع في عهد العمدة السابق.. هؤلاء الشباب الذين يتطلعون فقط لفرص متساوية وعادلة على أرض قريتهم التي لم تعد تستوعب سقف مطالبهم العالي، إنهم يكرهون فعلة آبائهم الذين تركوا الأرض للغرباء وهاجروا إلى بلاد بعيدة وانقطعت أخبارهم، وتقلصت صلتهم بالقرية إلا من خلال حوالات مالية ودراهم قليلة يرسلونها لأسرهم وكلهم ظن أنها الحل الشافي لمشاكلهم الحياتية.. وقليلون منهم يحرصون على العودة لزيارات مقتضبة أثناء العطلات، التي أصبحوا يقضونها في الغالب على شواطئ منتجعات فارهة طالما غيرت ملامح السعادة لديهم من راحة واستجمام، إلى حرص مفرط على التظاهر والتعالي..!

يقول الحفيد لجده: هل تقبل بهذا يا جدي..؟ هل يمكن أن يكون الحارس الساهر على معيشتنا وعلى مستقبل قريتنا حماراً..؟ وكيف تستقيم الأمور وقد وضعوا في يده مقاليد القرارات كافة..؟ حتى لو كان متميزاً وله قدرة على فعل السحر، فإنه سيظل أعجم بلا عقل لأنه لم يتعلم إلا لغة العصا والسوط وما يتبعها من بطش وأذى إن لم تفلح..! وماذا فعل وجوده لنا نحن أبناء هذا الجيل.. أي ذنب اقترفناه حتى نضطر للانصياع لرغباته الشاذة في أغلبها..؟

يضحك الجد ويقول: لكن وجوده ضروري يا بُني.. فهو بالرغم من غرابته وشذوذ طبائعه ومن كونه أعجم، فهو أحياناً يرمز للتقوى حيث يقوم الليل ليذكرنا بصوته أن هناك راعي لهذا الكون يحمينا من الشرور، وبصوته الجهوري أيضاً يجعلنا في حالة استنفار دائم أمام الأخطار المحيطة بنا.. بل أن صوته هذا على الرغم من غرابته قد يكون رادع مثالي لكل الأخطار، وهو كما تعلم له من القوة المفرطة وأبواق التنبيه ما يستطيع به ضبط ايقاع شوارع القرية من أقصاها إلى اقصاها بعد أن باتت تعج بالفوضى مؤخراً.. إنه يملك القانون ويقدر بما له من خبرة في مسالكه أن يحاسب الخارجين على الأعراف وأن يكافئ من يظنه يستحق الإثابة.. ولا تنسى أنه يملك من الأجهزة الخفية التي لا نراها ما يستطيع به مراقبة كل شئ، وتحديد ملامح ما نحتاج إليه من وسائل لتأمين حياتنا أو توجيهنا للصواب وتنحيتنا عن الخطأ، وبها يستطيع أيضاً درء المخاطر ووأدها في منبعها قبل أن تصيبنا بالأذى.. وأظنك لا تختلف معي في أنه يواصل الليل بالنهار ويكدح ليوفر لنا الأقوات وما نحتاج له من مواد وسلع ووقود وخلافه كي نستطيع الاستمرار في التواصل مع الأصدقاء في القرى الأخرى دون خنوع أو خضوع أو تبعية.

تنهد الحفيد متحيراً بين ضجر دفين يغلي داخله، وبين احترام اضطراري لابد وأن يظهره تجاه منطق الجد العجوز.. فقال: لكنه يا جدي لا يقوى على الحوار، ولا طاقة له بالاختلاف في الرأي.. ألا تراه لا يميز في أغلب الأحوال بين من يعمل للصالح أو عكسه..؟ هذا بالإضافة لعدم قدرته على تقدير حسابات المدى البعيد بسبب اعتماده على مجموعة من الأدوات العتيقة لا تتناسب ومعطيات العصر..! وإلا كيف تفسر مواجهة الكلمة بالسوط.. وكيف نرضى بأن يكون الرد دائماً "أنا أعلم ما لا تعلمون"..! المعرفة ليست حكراً على أحد يا جدي، ومن منا لا يستطيع الحصول عليها بضغطة زر حتى في ظل أعتى أنظمة الحصار الفكري والثقافي..؟ قد يظهر أن الرجل يُبدي إيجابية في التنفيذ مصاحبة بسرعة في الاداء، فهو من اعتاد العمل الدؤوب بحكم خبرته.. لكنه في المقابل لم يُبد مرونة مناسبة أو تفاهم مع الأخر حين احتدم الخلاف، وحين ثبت إخفاقه.. فوجدناه قد تعنت والتف على الحقيقة، بل ورمي من عارضه بالخيانة والعمالة..!

وهل ترضى يا جدي بما فعل الرجل بأرضنا مؤخراً..؟ لقد قرر ببساطة متناهية بعد أن شح الماء وجف الزرع، وبعد هجرة الآباء أن يبيع قطعة منها للحاج/ سعودي شيخ سماسرة القرية المجاورة..! وحينما اعترضنا لديه على هذا التصرف الغريب، قال أنه فعل كل ما بوسعه، ثم صمت ورفض الحديث حتى حينما قارعه الحكماء منكم بالحجة والبرهان..! أما كان له أن يشركنا في القرار بدلاً من أن يطلق علينا حماره العجيب، هذا الذي من فرط جوعه وشراهته قرر أن يلتهم الحقيقة وأن يعقر أي صوت يطالب بها..!

عذراً يا جدي.. فهذا رأيي بصراحة بعد أن صار السجن والسجان مصيراً لكل من يعارض العمدة وحماره الحارس.. نظر الجد لحفيده بعمق يشوبه الأسى ولم ينطق بكلمة.. واكتفى بمراقبة أعواد الحطب ونيران الراكية تلتهمها بشراهة.. ولم يكن عالقاً بذهنه إلا انقاذ براد الشاي من فوق النيران قبل أن يغالبه الفوران..!

النهاية...

إعلان