إعلان

مسيحي في رحاب الله..! (قصة قصيرة)

مسيحي في رحاب الله..! (قصة قصيرة)

04:03 م الثلاثاء 13 ديسمبر 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم/  محمد أحمد فؤاد

بدايات الشتاء، وبرودة رقيقة لا تكاد تعكر دفئ المكان.. الشوارع ضيقة، تصطف بها وتتلاصق أبنية متهالكة متوسطة الارتفاع داهمها الزمن بقسوة تظهر في تجاعيدها متعددة الأنماط، تلك التجاعيد الظاهرة بوضوح في الحوائط والأرصفة والطرقات، تجعل المكان يسبح في عتمة رمادية تكتنف الأركان كافة، وتتخللها بالكاد خيوط باهتة من ضوء نسجه النهار بصعوبة، جعلت الساحة تكتسي بنوع من القداسة المرتبطة بقدم وعراقة حارة مار جرجس بحي مصر العتيقة..

جلس عم ذكي حارس كنيسة العذراء أو كما يطلق عليها أهالي الحي "قصرية الريحان" على كرسيه المتهالك أمام بوابة الكنيسة.. انتصف النهار، وارتفع صوت مكبرات الصوت تعلن عن موعد آذان الظهر، وبدأ رواد المكان في التحرك منصرفين لشؤونهم بعد انتهاء القداس.. أطفال يلهون هنا وهناك في صخب لا تنقصه الوداعة، وفتيات وفتيان يسيرون فرادى وجماعات، يحملون الكثير من المشاعر والحكاوي والقصص، بعضهم يتهامسها والبعض الأخر يجاهر بها وبالضحكات التي يجذب بعضها انتباه المارة، حكايات غير معلنة في الغالب، لكنها تبدو واضحة من نظرات ولفتات ولمسات مختلسة ربما ظنوا أنها خافية عن العيان.. بعض العجائز يسيرون بمهل وتأني متكئين على عصيهم القوية التي ربما تزودهم ببعض الإحساس بالطمأنينة أمام خوفهم الظاهر مما قد يخبئه القدر لهم من مكائد ومفاجآت..  وبعض الرجال يحمل أرغفة القربان المقدس الذي هو رمز الكفاف وزاد الأخرة، يسيرون بجوار زوجاتهم اللاتي تَزيًّن بالملابس الفاخرة والحلي الثمينة التي يحرصن على ارتدائها لهذا الطقس الأسبوعي المقدس..

ينظر عم ذكي لهذا العالم المدهش والمتناقض على حد فلسفته البسيطة التي تقف بثبات عند حافة الرضا والقناعة، ويبتسم بتؤدة وهو يرتشف الشاي الأسود الثقيل ـ مشروبه المفضل في كل الأوقات ـ محاولاً إخفاء أسنانه الصفراء التي لا تختلف في حالها عن حال أبنية الحي المتهالكة.. الرجل يعرف كل شئ وأي شئ.. لم يقصده يوماً طفلاً أو كهلاً ورد له طلب أو سؤال.. هو يعلم أن رصيده من الزاد هو حب الناس أمام طيبته المفرطة، ويؤمن بأنه جزء من هذا المكان المقدس، ولا يطلب أكثر من أن ينتهي به الحال ليواريه الثرى في أي ركن بجوار هذا الخضم من القديسين والآباء المقدسين.. يمر الأب جريجوريوس ويلقي تحية مقتضبة على عم ذكي تتبعها نظرة حادة ذات مغزى.. ربما هي الغيرة من معرفة عم ذكي عظيمة الإتساع بكافة خبايا الحي العتيق وأسرار ساكنيه، جريجوريوس هذا الكاهن الشاب ذو الرغبة الجامحة في الظهور والشهرة، الذي عاد للتو من الولايات المتحدة بعد أن خدم لعامين كاملين في الكنيسة هناك، ها هو يتأبط ذراع سيدة مسنة تبدو قسمات الغنى والرفاهية من ملابسها وحليها وعطرها الفواح،  ويساعدها الأب المقدس ربما لتصل إلى خارج الحي لتلحق بسيارتها أو ربما لأسباب أخرى..

يأتي عم مكرم أيوب حاملاً حقيبته التي لا تفارقه ويسحب كرسيه إلى جوار عم ذكي، يجلس مجهداً ويشعل سيجارته المفضلة ماركة بلمونت الشهيرة، ويتناول كوب الشاي من يد صديق عمره الذي يبادره كالعادة بالترحيب والسؤال عن حال اليوم..؟ فيجيب عم مكرم: الحال صعب يا ذكي.. لكن نشكر ربنا، ده إحنا في نعمة ما بعدها نعمة.. تخيل النهاردة ست شكلها غني قوي جت تنفًّعني وتشتري صليب، قلت لها بتلاته جنيه راحت قالتلي ده غالي قوي، أدفعلك فيه جنيه واحد بس.. هو الجنيه يعمل إيه النهاردة يا أخي؟ دي حزمة الفجل بقت بجنيه..!  

عم ذكي: معلهش يا سيدي، في ناس كتير كده مش بتعرف قيمة الروح في الحاجة، لكن بتبص فيها على قيمة المادة وبس.. ما تزعلش قوي بقى وسيبها على ربنا... يبتسم عم مكرم ويتذكر قصة قديمة اعتاد الصديقان تبادلها في أوقات الضيق.. فاكر يا ذكي أول ما أنا جيت هنا من الفيوم وأنت أول واحد استضافني وساعدني.. ما كانش معايا مليم في جيبي، وإنت استأذنت من أبوانا أني أبات معاك في الأوضة بتاعتك، وقال لك ساعتها: أوعى أحسن يكون حرامي ويعمل حاجة في الكنيسة..! يبتسم عم ذكي دون رد..! ويواصل مكرم.. بعدها بيومين الكنيسة اتحرقت وأختك انصاف هي اللي شافت النار وصرخت وجرينا أنا وأنت وهي والناس علشان نطفيها، لكن النار كانت أكلت كل حاجة والكتب والخشب والزرع، حتى النحاس بتاع الكنيسة كله داب..  إلا حاجات أبونا ما حصلش لها حاجة لأنها طبعاً مش جوة الكنيسة.. يرد عم ذكي مبتسماً في هدوء: لا يا مكرم، إفتكر كويس.. ما فضلش من الكنيسة غير صورة العدرا، النار ما هوبتش ناحيتها.. ولا الأوضة بتعاتنا كمان، وأنت وأنا لِسّه عايشين الحمد لله، والكنيسة اتبنت من جديد، والناس رجعت تاني وأنت تجارتك شغالة وبتُرزق بالحلال.. وشفت بقى رحمة ربنا كبيرة إزاي..؟!

يأتي الشيخ أمين عائداً من مسجد عمرو بن العاص بعد انتهاء الصلاة، يلقي السلام كعادته ويجلس إلى جوار الأصدقاء لتكتمل الحلقة بكوب جديد من الشاي الأسود الثقيل، بينما تنبعث من المطبخ بالداخل رائحة الكرنب المسلوق الذي تقوم إنصاف الأخت المسنة بإعداده للغذاء.. عم ذكي: رزقك في رجليك يا شيخ أمين.. إنصاف بتعمل محشي كرنب ولازم تتغدى معانا النهاردة، قولي أيه أخبارك وعملت أيه في موضوعك مع الوزارة.. أمين مبتسماً:  أحلى كرنب في الدنيا اللي بتعمله الست/ إنصاف.. ده حتى أحلى من الكوسة بتاعة الأوقاف.. يضحك الثلاثة بصوت مسموع لهذه المزحة ذات المدلول العميق..

فالشيخ أمين تم إيقافه عن العمل كخطيب مسجد مجاور للمنطقة بسبب وشاية من أحد زملائه، ويقول مكرم: هو الجدع اللي معاك في الجامع ده ما سحبش الشكوى لحد دلوقت؟  أمين: لأ ما سحبهاش! مكرم: سبحان الله، هو في حد كده في الدنيا..! فيها أيه يعني لما تاخد العيال الصغيرين وتعلمهم الزرع والنظافة وتدهنوا الرصيف بدل ما تقعدهم جوه الجامع علشان يحفظوا ويصموا وهما جواهم طاقة وحيوية وعايزين يلعبوا ويتنططوا..؟ والله مافيهاش حاجة أبداً..  ما هما برضه هايجي اليوم ويحفظوا الدروس لما يكبروا شوية..!  أمين: تقول لمين بقى يا عم/ مكرم.. في الوزارة ماعندهمش غير منهج الحفظ وبس، لما قلت لهم نسيب العيال تخرج الطاقة اللي جواها في حاجة تفيد البلد وتفيدهم قالوا عليا عايز أغير الكون وأهدم مبادئ الشريعة والكلام اللي أنت عارفه بقى..  يبتسم عم/ ذكي في حزن ويقول: أنا عايش هنا بقى لي 70 سنة.. أحلى حاجة في حياتي شوية الورد والياسمين والصبار اللي في قصاري الزرع دول.. دول هما ولادي اللي ما خلفتهمش.. وأحلى صوت بأسمعه صوت العصافير الصغيرة جوه العش وهي مستنية أبوها وأمها جايبين الأكل معاهم.. وأحلى منظر بأشوفه هو الطيور وهي بتطير في حرية، والعيال الصغيرة لما بتيجي ساعة القداس وتقعد تلعب وتتنطط ولا يهمهم إيه اللي بيحصل جوة الكنيسة...

تخرج إنصاف من المطبخ وهي تحمل حلة محشي الكرنب لتعلن عن ميعاد الغذاء..  يجلس الأربعة يتناولون الطعام بأصابعهم حول طبلية مستديرة في حديقة الكنيسة، وتحيطهم أصوات العصافير وقصاري الزرع المسماة بإسم المكان المقدس، ويتبدد صمت المكان مع صوت مكبرات الصوت تعلن عن موعد آذان العصر، فتتحول دفة الحديث عن هموم الحياة، إلى الإشادة ببراعة إنصاف في إعداد الكرنب المحشو الذي يفوق في جودته كوسة الوزارة.. وفجأة يأتي الطفل إسماعيل مسرعاً إلى حلقة الطعام تاركاً خلفة مبارة كرة قدم حامية بين أطفال الحي ويقول: هاتي صباع محشي يا خالتي إنصاف، فتناوله له بسعادة ثم يعدو إلى خارج حديقة الكنيسة منطلقاً إلى عالمه الصغير..!

إعلان