إعلان

بالصور- مصراوي يعايش رحلة البحث عن "صوت السماء"

01:48 م الأحد 26 مارس 2017

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- أحمد الليثي وإشراق أحمد:

تصوير- محمد حسام الدين:

على بُعد نحو 240 كيلو متر من العاصمة يقبع المبنى، تعلوه لافتة لإذاعة شمال الصعيد، المنيا، جدران صماء لا توحي بحياة، فيما كان الصخب يضج داخله، السباق محموم، الأعمار مختلفة تبدأ مع مطلع العشرينيات حتى بعد الستين، شاب يرتدي الجينز وكهول بجلباب وعباءة الحُجاج، تتراءى للأعين أغطية الرأس "جبة"، يشع الأحمر بها توهجًا، ومن أسفلها يشير الشعر الأبيض إلى حلم لم يمت داخل النفوس بالحصول على لقب "شيخ معتمد بإذاعة القرآن الكريم".

7 سنوات مرت على آخر اختبار أعلنت عنه إذاعة القرآن الكريم عام 2010، للبحث عن أصوات متميزة، تضخ دماء جديدة إلى أثير الشبكة العريقة، ومع مطلع عام 2017 تجلت الفكرة مرة ثانية؛ قرر القائمون على الإذاعة نقل لجنة فرعية من متخصصين في العمل الإذاعي إلى محافظات مصر، من جنوبها إلى شمالها بعدما كان مبنى ماسبيرو وحده –قبل مطلع الألفية- قِبلة الحالمين.

في محافظة المنيا حيث الجولة الخامسة للإذاعة، مصراوي كان هناك، عايش على مدار يوم أحلام المشايخ الجدد، رهبتهم داخل الاستوديو، ومعايير لجنة التحكيم وتعاملهم مع المتقدمين للاختبار، في سبيل ايجاد صوت يخلف قيثارة السماء، الشيخ محمد رفعت وأتباعه في دولة التلاوة والابتهال.

قبل ساعة من بداية الاختبار، يراوح البعض مكانه محاولاً قتل الوقت، في كافيتريا بالطابق الثاني من مبنى الإذاعة، يبدو للعيان الفرق الواضح بين المنشد والمرتل، في الغالب الأول يرتدي ملابس عادية والآخر معتد بذلك الزي الأزهري، حتى في لغة التواصل، يحبذ المقرئون استخدام لغة القرآن حتى وإن كان الحديث حول طلب مشروب "ماء مغلي بسكر بارك الله فيك" ينادي أحدهم بما يعينه على جلي صوته وسط همهمات الانتظار.

بعمرٍ تخطى الخمسين، وقف عيد أحمد وسط صفوف المختبرين منتظرًا لحظة دخوله، دونَ في خانة التقدم "مبتهل"، يقول إن تقدمه للإذاعة جاء مشفوعًا بثناء المصلين وراءه كل فجر بذلك المسجد الذي يتولى إمامته بمركز مطاي في محافظة المنيا "استشرت ربنا وقدمت بالتلغراف".

على بعد خطوات يرتكز خالد محمد، شاب عشريني، حضر من قرية تله بالمنيا. على عجل خلع رداء العمل كفرد أمن، وبدأ يضبط هندامه "على البوابة قالولي مش هتنجح عشان جاي بلبس مش أزهري"، ما أن ولج القاعة المحتشدة حتى اتخذ ركنًا قصيًا، وراح يراجع القرآن من شاشة تليفونه المحمول. قرر أن تكون سورة النمل بوابة عبوره للإذاعة، خلا وجهه من دماء، فيما تغيرت ملامحه بالبهجة بعدما وقعت عينه على الشيخ مشرف، الذي كان سبيله قبل 10 سنوات في ختم القرآن على يده "حتى لو منجحتش المرة دي.. كفاية إني جنب الشيخ اللي علمني وواقفين في نفس الصف". 

نصف ساعة وينطلق موعد الاختبار، انقسمت القاعة إلى نصفين، مَن حضر متأخرًا، يسأل مقرر اللجنة عن المعلومات الناقصة للتقديم وآخرون بدأوا في الحديث غير أن كلامهم مختلف؛ البداية تكون بآية والرد يأتي بابتهال، شاب صغير بدا متوجسًا قبل أن ينضم لحلقة المشايخ، لم يُعرف نفسه بالاسم لكنه شرع في إطلاق حنجرته بأنشودة لنصر الدين طوبار ختمها بدعاء "اللهم استر عيوبنا، واحفظ بلادنا وصُن بلاد المسلمين من كل مكروه وسوء".

إلى منضدة الكافيتريا أسند عبد الله محمد ظهره، يهدئ الشاب العشريني من روع نفسه، يستعيد سيرته الذاتية في المشاركة كمبتهل بمسابقة إبداع الشباب، والتي أذيعت على التليفزيون المصري، ويكرر طالب الهندسة الإشارة لكونه عضوًا بفريق الإنشاد بجامعة المنوفية، ويحتفظ بالمرتبة الأولى في الإنشاد على مستوى جامعات مصر، ويُمني النفس بحلمه وأمنية والده "أني صوتي يخرج من الإذاعة".

الدقائق تمر، النظرات حائرة، والضحكات تذيب التوتر المعتمر بالنفوس، يراهن الممتحنون على قدرتهم في تقليد كبار المشايخ، فيرتل أحدهم "إن مثلَ عيسى عند الله كمثل أدم" على طريقة مصطفى إسماعيل، فيرد آخر بمقطع من سورة مريم على غرار المنشاوي، بينما قطع جولتهم صوت مقرر اللجنة وهو يقول "محدش يقلد يا جماعة.. كونوا أنفسكم".

ينقسم المكان لفئات ثلاث، الأولى للمتقدمين، فيما يرتكن مقرر اللجنة في جانب القاعة ممسكًا بأوراق المقبلين على الاختبار، غير أنه يعاملهم بإجلال؛ فالنداء على كل منهم يسبقه لقب "شيخ" حتى وإن صغُر سنه، بينما يراقب المشهد عن كثب عم علي عطا عامل الكافيتريا.

خلف نصبة تنطلي بالرخام ظل "عطا" يوزع ابتساماته مع كل كوب يقدمه للممتحنين، يتابع قِدر المياه المغلي ومعه تنتشي روحه بسماع آيات الذكر الحكيم فتميل رأسه لا إراديًا، يود أحدهم لو سمع إطراءً، فيأتيه صوت الرجل الأربعيني: "قول يا سيدنا واطربنا.. دول حتى بيقولوا تغنوا بالقرآن" فتجلجل الأصوات في تناغم متتابع.

داخل الكافيتريا راح يُسري عبد الرحمن يخرج محفظته بين الحين والآخر لإهداء بطاقة تعريف ممهورة بعبارة "قارئ ومبتهل" ومذيلة بعنوان صفحته الخاصة على موقع الفيديوهات "يوتيوب"، فيما أصر أن تكون العبارة ذاتها موثقة من قِبل إذاعة القراءان الكريم "فخر لأي قارئ إنه ينتمي للإذاعة المصرية"، نوى صاحب الـ46 ربيعا دخول المسابقة قبل شهر بعدما نصحه بعض "السميعة" خلال إحدى المناسبات ببلدته في أسيوط.

يعدل الرجل الملتحف بزي أزهري من جلسته وهو يعدد ألقابه "حاصل على إجازة تجويد ومعهد إعداد الدعاة وبقالي 20 سنة بقرأ جوا مصر وبراها، بس أنا أصلا محاسب" قبل أن يختتم حديثه بعبارة واحدة "لو منجحتش هقدم تاني، مش شرط نعدي من أول مرة"، بينما يقطع حديثه طلبات الشيوخ من عم "عطا" ليأتيهم ببعض "الينسون" عسى يكون سندًا لهم وقت "المحنة" .

لا يفوت عم عطا كرم الضيافة فنحو 100 كوب من المياه الساخنة بالسكر يهاديها لضيوف الرحمن مجانًا، وحين يستشعر حاجة أحدهم لمشروب لا يمتلك مقابله فيتبرع هو بتقديمه عن طيب خاطر "لازم الشيوخ يحسوا إن أهل المنيا كرموهم.. الرزق بينادي صاحبه من غير استغلال".

وقت الانتظار ينفد، يحين موعد الاختبار، عقارب الساعة تقف عند الحادية عشر والربع، يدخل موظف بالإذاعة يطالب القاعة بالتزام الصمت لسماع أسماء المجموعة الأولى المقبلة على مواجهة الاختبار، فينسحب الواحد تلو الأخر إلى الطابق الأول ويجتمع الخمسة الأوائل في حجرة أصغر أمام باب الأستوديو.

حول طاولتين مستديرتين، يتحلق أعضاء لجنة التحكيم الستة، بينهم مدير إذاعة شمال الصعيد، الجميع يولي وجوهه صوب لوح زجاجي سميك، تظهر معالم الممتحن من خلفه، ما أن يتخذ القارئ أو المبتهل مكانه أمام الميكرفون، حتى يعطى "حسن سليمان" رئيس شبكة إذاعة القرآن الكريم الإشارة، تُفتح سماعة التواصل ليتحدث إلى المتقدم للاختبار "إزيك يا فضيلة الشيخ.. شكلك كده مبتهل بس مبتهل متين يلا عايزين نسمع حاجات حلوة".

يكسر "سليمان" أجواء التوتر، بصوت إذاعي رخيم يواصل إعادة القواعد على مسامع القراء "الأول اسمك والمحافظة ثم اسمعنا ما تيسر لك"، ثم يؤكد على الالتزام والتنويع بين المقامات الصوتية "قرار.جواب. جواب الجواب".

بين الحضور خارج الاستوديو، يمرق كفيفان يرافقهما شابان حضرا خصيصًا للمساعدة، على مقاعد الانتظار جلس علاء عبد الرحيم، يميزه رداء أزهري مكتمل ونظارة سوداء تحجب عينيه. لم يمل الشيخ الأربعيني من الجلوس بالمكان ذاته للمرة السادسة "جاي من أسيوط وأملي في النجاح هذه المرة.. القراءة بالإذاعة نوعًا من الدعوة القرآنية" يقول "عبد الرحيم"، فيما يصدح صوت مبتهل يبذل الجهد للإجادة أمام لجنة الاختبار.

رغم بداية الشيخ الكفيف المُبكرة مع قراءة القرآن، وحصاده لجائزة في التلاوة من السعودية عام 90، ومع كونه معلم قراءات وعلوم شرعية بالأزهر حسب قوله، إلا أنه لا يعلم السبب في عدم تجاوزه للاختبار منذ عام 2001 "لكن لا نيأس أبدا إلى أن نُقبل بإذن الله تعالى" كذلك اختتم كلماته قبل أن ينفتح له باب الاستوديو ليعتدل في جلسته أمام الميكرفون مرتلاً أول آيات سورة المؤمنون.

دقائق لا تتجاوز العدد 7 على مؤشر التسجيل بالأستوديو، هي ميقات اللقاء بين الممتحن ولجنة التحكيم، بعدها ينفصل الجمع، لكن يظل الحاجز الزجاجي حائلاً بين ما يفكرون؛ يخرج المتسابق مُحدثًا نفسه عن مصير أدائه، يمنيها بتجاوز الاختبار، فكذلك سبق أن أكد له المحيطون، فيما يرى المحكمون أن "البعض للأسف لا يتقبل التعليقات بسهولة، فممكن ياخد مهلة ويرجع زي ما هو من غير أي تجديد" بحسب قول قدري سرور، أستاذ الصوتيات المتفرغ بجامعة حلوان.

ينفتح باب الاستوديو مرة تلو الأخرى، لازالت الإضاءة أعلاه تنير باللون الأخضر، يخرج مصطفى شعبان مبتسمًا خلاف ما دخل، زالت رهبة الاختبار عن الشاب العشريني مع شعوره بأدائه الجيد، فيما لم يختلف حال أحمد عبد الله، القادم من الفيوم، هادئًا بدأ وانتهى "أنا جاي عشان التجربة نفسها وأيًا ما كانت النتيجة هبقى راضي عشان أطور نفسي".

داخل رواق التحكيم، لا رسمية إلا في قواعد التسجيل، وما يرتديه المحكمون من بذات، فطالما تواجد ممتحن أمام الميكرفون تدب الحيوية بين جدران الاستوديو؛ حالة من السجال الخالي من التوتر، يشد علي مسعود، مدير عام التخطيط الديني بالإذاعة حبال الحكم "الرقابة الشديدة هي اللي هتخلق متميزين.. إيه ذنب المستمع إنه يصحى الفجر ويسمع صوت وحش"، فيما يُهدئ "سليمان" رئيس اللجنة من وتيرة الأجواء، موقنًا أن الصوت الجيد، واتسامه بروح المقرئ أو المبتهل كافيًا بإعطائه فرصة، مُصدرًا الرغبة في عدم تنفير المتقدمين من الإذاعة.

لا تتوقف التعليقات، "خسارة يا ابني الـ200 جنية حق الاستمارة"، "لا يليق به أن يقف أمام الميكروفون في هذا الوقت"، "حرف السين في مشكلة"، "أحكام التجويد جيدة إلا أنه محتاج تدريب"، لكن علامات الرضا تظهر جلية، في صمت لا يقاطعه سوى كلمات الإعجاب "الله يا سيدي"، تأوه، مصمصة شفاه، همهمة وإماءة رأس تستحسن ما يجود به الميكرفون.

بعد نحو ساعتين من بدء الاختبار بات المبنى مقسمًا بين أولئك الرابضون في الدور الأرضي انتظارًا لميقات الامتحان، وآخرون في الكافيتريا يقبضون على استمارات التقديم مدققين في كافة النقاط، لمحاولة منع أي شائبة تقف أمام عبورهم للأستوديو.

وبينما يشرد المنتظرون للوقوف أمام الميكرفون، خطف الأنظار دون قصد اثنان، بادروا لكسر رتابة الوقت بالتلاوة والمزح "أعيد تاني إيه يا عم أنت عايز تموتني قبل ما أدخل" يقول ذو الجلباب المقلم والعباءة الأزهرية السوداء، فيما يؤمن عليه أحمد دياب بالضحكات، تلك المرة الثالثة للأخير مع اختبارات الإذاعة، لكنها الأولى في شمال الصعيد.

بالنسبة لصاحب الـ47 عامًا "قارئ إذاعي يعني قارئ أكاديمي"، يوضح "دياب" أن تلاوة القرآن على أسماع المتخصصين هي الربح من تلك الجلسات، لذلك لم يتوان عن السفر من الفيوم إلى القاهرة في المرات السابقة، متمنيًا أن يجد مقصده في المنيا هذه المرة، بعدما سارت الأمور دون حائل مرضي أو فوات ميعاد الاختبار.

ينتصف يوم الاختبار، فيما يغلف التعليقات الأمل بوجود أصوات ذات شخصية مستقلة "المفروض المنشد يخلق كلماته الخاصة مش مجرد مقلد والمرتل يغوص في آيات القرآن وليس قراءة الآيات المشهورة" يقول مدير عام لجنة التخطيط الديني بالإذاعة.

قبيل دخول متقدم جديد، يمسك سلامة رشدي، مقرر اللجنة القلم، ينظر لـ"سليمان" منتظرًا تسجيل التعليقات النهائية، يدونها بدقة كما يلفظ، فذلك الدفتر الأسود، المقسم إلى خانات، تضم بيانات المتسابق وترتيبه، يكمن حال 142 متسابق، الصالح وصاحب الفرصة الثانية والمرفوض، مَن أتم وقفته أمام اللجنة، والذي تغيب "في 55 واحد اعتذروا" يحصيهم "رشدي"، فيما يخبر بالتعليقات التي أجمعت عليها اللجنة، وارتكزت على التنويع بين القرار والجواب، التدريب على الأداء الإذاعي الجيد، والنشاز عند النقلات الصوتية.

يوشك يوم الاختبار أن ينتهي، يواصل المحكمون العمل، بينما ينفتح باب الأستوديو بهدوء، لتمر نادية مبروك رئيسة الإذاعة المصرية، كانت "مبروك" في جولة عامة بالإذاعة فقررت متابعة سير الاختبار، لم تشارك بالحديث إلا لتؤمن على رأي أحد الحكام توجه لها بالكلمة "الاختبارات دي أمانة مش أي حد ينول شرف التلاوة عشان يسمعه الملايين من خلال الإذاعة".

10 دقائق وتغلق اللجنة دفاترها، تشير الأوراق أن 69 متسابقًا رسبوا جراء الخطأ في مخارج حروف الصفير–س،ص. "محتاجين ناس ودنها كويسة، وعندهم حب فعلي للقرآن، متواضعين للدرجة اللي تخليهم يسألوا عن اللي ناقصهم" يقول علي مسعود، فلن يمرق صوت إلى قلوب المتعطشين لسماع كلام الله عبر أثير الإذاعة إلا حين يتوقف صاحبه عن الاعتقاد بأن "اللي ناقصه الكارنيه بس".

مع مغيب السادس عشر من مارس الجاري، اختتمت اللجنة جولتها بين أهل شمال الصعيد، بعد يومين من البحث عن صوت متميز، والثلاثاء المنصرف ظهرت النتائج رسميًا، فكانت الحصيلة مبتهلين اثنين انتقلوا للمرحلة الثانية من بين 91 ممتحن "ده اختبار مبدئي ولسه في كذا مرحلة عشان يبقى شيخ معتمد في الإذاعة" يوضح مقرر اللجنة. بينما يُوضع الأمل في 16 متسابق -4 قراء و12 مبتهل- كي يتلافوا الملاحظات الجاري إعلامهم بها خلال فترة 6 أشهر تم منحهم إياها لمعاودة الاختبار مرة أخرى.

على أبواب الإذاعة يخرج المشايخ بعد يوم عصيب يجرجرون الأقدام وفي جعبة أحلامهم أماني القبول عاجلاً أم آجلا، ويولي كل منهم قِبلته بعد ساعات من حبس الأنفاس لاستكمال حياة القراءة والابتهال في أوساط العامة دون اختبارات ولجان تحكيم، بينما يستقل عم عطا الدراجة البخارية خاصته قاطعًا نحو نصف الساعة حتى يصل لمنزله بقريته الصغيرة. يُمني النفس بأيام تلو الأخرى تتوافد فيها حشود المشايخ، حبًا في زيادة السعر وطلاوة الأصوات التي تحيل فراغ البوفيه إلى خلية نحل تسكنها الطاقة والشغف.

فيديو قد يعجبك: