إعلان

ذهب لسوريا 27 مرة لُيعطي ألعابا للأطفال.. مصراوي يحاور "بابا نويل" الحرب

03:22 م الخميس 21 يوليو 2016

بابا نويل الحرب

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

حوار-دعاء الفولي:

كانت حلب السورية تتآكل جراء القصف. في شرايينها تتجمد دماء الأطفال. يختبئون بأجساد آبائهم، ثم يرونه عابرا في الطرقات، يحمل حقيبة ضخمة، كتلك التي بحوزة "بابا نويل" في الأفلام، فينادونه من بعيد "عمو ألعاب". يعلمون أن نصيبهم من القتل محفوظ، وكذلك نصيبهم من عرائس "الباربي"، لعبة "باتمان"، "السكاكر" و"الحلوى". يهرولون تجاهه، ليحصل كل منهم على هدية. وفيما تتساقط القذائف، تشرأب أعناق الصغار لاستكشاف ماذا أحضر رامي أدهم لهم، قاطعا المسافة من فنلندا وحتى ديارهم، ليقول إنه مازال يهتم لأمر طفولتهم رُغما عن الدمار.

1

حين ترك "أدهم" سوريا عام 1988 مستقرا بفنلندا، لم ينس مدينته حلب التي نشأ بها. وبعد أن أزفت الحرب فكر كيف يساعد أهل البلد، فكان إدخال المساعدات الغذائية أول ما جال بخاطره، إلا أن ابنته "ياسمين" سألته ذات مرة "بابا ليش ما بتاخد لهم ألعاب؟"، قبل أن تباغته الفتاة ذات الثلاث سنوات "عندي ألعاب كتير مش بلعب فيها". طلب منها "أدهم" أن تجمع ما لديها "فلقيتها جاية ومعاها 70 لعبة تقريبا.. جمعتهم من إخواتها الخمسة"، عقدت الصغيرة مع أبيها اتفاقا فيما تُناوله الألعاب، أن تحصل على دُمية جديدة مقابل ما تبرعت به، فوافق على الفور.

2

في 2012 وزّع "أدهم" ذو الثلاث وأربعين الألعاب بسوريا للمرة الأولى "مكنتش متخيل إنها هتفرح الأطفال بهادا الشكل". مخيم "أطمة" على الحدود التركية السورية كان مُستقره. وبمجرد أن حصل الصغار على الألعاب حتى شرعوا بالتحدث معها "البنات كانت تقول للباربي ما أحلاكي.. شو شعرك حلو"، بعضهم أعطى الدُمى أسماء، وآخرون كانوا يربتون على رؤوسها "كأنهم صار لهم أصدقاء جدد" حسبما يروي الأب لمصراوي.

3

أمست الألعاب شيئا أساسيا فيما بعد برحلات "أدهم" لسوريا. صار لا يصحب معه مواد غذائية، بل دُمى وأموال لشراء ما يحتاجه الناس هناك "ولادي ضلوا يقولوا لأصحابهم في فنلندا عن اللي بنعمله.. وأصحابهم يعطوا لهم ألعابهم القديمة وبقى عنا مستودعات ألعاب".

 حين لم يكن هناك بُد، أسس "أدهم" الرابطة السورية الفنلندية في 2013، ليسهل عليه دخول سوريا بعدما ساءت الأمور نتيجة الحرب. ومع الوقت أصبح هناك ناشطون بالداخل يساعدون في توصيل المواد لأهلها، وتفرّعت أنشطة الرابطة خلال ثلاث سنوات، بين كفالة أيتام بحلب، أو إطعام صائم.. فيما كَبُرت حقائب اللعب، لتسع حوالي 600 دُمية في كل زيارة.

4

سافر الأب السوري لموطنه 27 مرة منذ بداية الحرب. حتى عام 2013 كان يذهب بصحبة صديق له "لكن الأوضاع أصبحت خطرة جدا من 2014 فصار لازم روح لوحدي"، كان السفر مجازفة تقبلها "أدهم"، لأن "معايا جنسية فنلندية زائد كوني سوري فدخولي هيكون أسهل"، بالإضافة إلى أنه أراد تقليل المقابل المادي للسفر.

 اتبع صاحب "الألعاب" نفس برنامج التحرك في كل مرة، فيبدأ بالمخيمات على الحدود، يليها الريف السوري وإدلب، وأخيرا حلب، حيث يتمكن من توصيل المساعدات والعودة. إلا أن الأمر لم يكن دائما بتلك السهولة، إذ تظهر المعضلة من ركوب الطائرة وصولا لتركيا "الوزن المسموح هو 30 كيلو على الطائرة و15 معي". لكن "أدهم" كان بحوزته في كل مرة 70 كيلو من الألعاب، استطاع إدخالها "بصياعة سورية" على حد وصفه. وظل التنقل داخل سوريا بها يسيرا لحد ما، حتى مايو 2015، حين أغلقت الحكومة التركية حدودها مع سوريا، فكان لزاما عليه أن يلجأ لتهريب الألعاب.

5

"مش هقدر أقعد من دون ما أطلع ع سوريا".. هكذا قال صاحب الرابطة لنفسه، قبل الاتفاق مع مُهرب سوري يصطحبه من الحدود التركية للداخل "كان كل اللي ع بالي إني أوزع الألعاب بنفسي وأشوف الأطفال"، تعين عليهما أن يسيرا 16 ساعة في الغابات، حاملين ما معهما من ألعاب. ظل مرافق "أدهم" يقنعه بترك الحقائب لوعورة الطريق لكنه أبى، فحمل بعض الحقائب وساعده المهرب في ذلك. مازالت تلك اللحظات تُثير بجسده غصة وألم "من ساعتها وإلى الآن لهلأ كلو تهريب".

 ما يراه في أعين أطفال سوريا يستحق. يذكر "أدهم" لهفتهم إذ يرونه قادما، يقول له أحدهم "عمو.. هاي اللعبة رقم تسعة"، يحكي له الصغير أنه كوّن مجموعة منهم بالمنزل، متراصين في صف واحد، وينتظر الزيارة التي تكون عادة كل شهرين ليحصل على صاحب جديد. فيما صار بعض الصغار أصدقائه، مثل "مرام" ذات الأحد عشر عاما "كل ما بروح على حلب بتيجي تساعدنا بمقر الجمعية وبتشتغل معنا بدوام كامل".

6

16200 لعبة أدخلهم الأب إلى سوريا منذ بدء الزيارات، يؤمن أن الأطفال ليسوا بحاجة لُدمى فقط "بل بأشخاص يكونوا عوضا عن آباءهم ياللي فقدوهم بالحرب"، ربما ذلك أحد الأسباب التي تدفعه للذهاب في كل مرة، ملبيا مطالب البنات والأولاد بصدر رحب.

"باربي يا عمو وكورة"، لا تخلو رحلة لـ"أدهم" من هذين الغرضين. يأخذ معه حوالي 150 دُمية "باربي"، ومثلها في العدد عرائس قطنية محشوّة، وعدة كرات للشباب الصغار "لما بنعطيهم كورة بيبقى كأنه عرس"، بالإضافة لألعاب بلاستيكية على هيئة "سوبر مان" و"سبايدر مان" وبقية الشخصيات الكارتونية. يجمع الرجل الأربعيني الدُمى في 3 أكياس فقط كي لا تأخذ مساحة كبيرة في الطائرة أو أثناء الحركة.

7

اقترب الموت كثيرا من صاحب الرابطة في إحدى الرحلات، فمنذ خمسة أشهر أصابته قذيفة روسية، بينما هو في حلب، بشظايا في رأسه وكُسرت يداه، فيما اضطر برحلته الأخيرة لحلب والتي عاد منها منذ أيام، أن يزحف على بطنه ثمانية كيلومتر كي يدلف المدينة "عشان طيران الأسد ما يرصدنا".

تلك الزيارة الأخيرة كانت الأسوأ على الإطلاق؛ المدينة مُحاصرة من كل جانب، والفريق الأمني الذي يعمل مع "أدهم" حذره من الذهاب. لكن ما طمأنه أن هناك من يدخل ويخرج "لكن على دمه متل ما قالولي الشباب"، لذا قرر خوض التجربة أيا ما كانت النتيجة، إلا أن تلك المرة هي الوحيدة التي لم يستطع إدخال الألعاب فيها لحلب بسبب صعوبة الحركة، فاضطر لتوزيعها بالمخيمات السورية على الحدود. ما يفعله الأب الأربعيني ليس كبيرا في رأيه "لأنو إذا الله قدر لي أرجع ع فنلندا فهروح لبيتي وأولادي.. لكن هادول الناس اللي بسوريا ما عندهم أفضل من هيك ومع ذلك رفضوا يطلعوا.. هادول الناس والأطفال هما الأبطال مش أنا".

8

مع الوقت تعوّد أطفال "أدهم" الستة على تلك المغامرات، رغم خوفهم على أبيهم "عارفين ياللي بنحاول نعمله". يحاول التواصل معهم طوال الوقت في الطريق لسوريا. وحين يمكث بحلب، ينتظر بين كل قذيفة والأخرى ليتحدث إليهم "بيكون فيه حوالي عشر دقائق صمت"، كي لا يفزعوا من سماع الصوت.

 في صف طويل يتراص الأطفال بحلب، بينما يقف بجانب "أدهم" أشخاص يساعدونه، لينتهي توزيع الدُمى بغضون ساعتين. يُسرع الأب السوري من الأمر قدر المستطاع "لأنو أي مكان هناك معرض للقصف"، فيما يقوم آخرون بتوزيع المواد الغذائية على الأهل، الذين يسخرون من الظروف قائلين: "بنتمنى نكون صغار عشان ناخد ألعاب". بأحد المرات سقطت قذيفة خلف ذلك الجمع، لم يُصب أحد بأذى، غير أن جميع الأطفال انبطحوا تلقائيا على الأرض، وأصابهم الفزع والذهول، لكنهم لم يتنازلوا عن صف الألعاب بأي حال.

9

مع كل مرة يخطو بها "أدهم" لسوريا ينطق الشهادتين، مودعا أهله، عالما أنه قد لا يرجع، إلا أن ما رآه على مر الأربع أعوام لن يمنعه عن بلده. طالما لديه من الألعاب ما يُدخل السرور لقلوب صغار سوريا، فسيظل يحاول الوصول لهم، تاركا إياهم وقد احتفظ قلبه بضحكات يطلقونها إذ يتلقفون ألعابهم ويحتضنوها، متناسين لدقائق فقط أن ثمة حرب تُطيح ببراءتهم وتبتلعها.

فيديو قد يعجبك: