إعلان

مصراوي يرصد معاناة أمهات أطفال الشلل الدماغي.. "نظرات الناس مبترحمش"

11:56 ص الخميس 01 ديسمبر 2016

واحة نور الحياة الخيريه لعلاج اطفال الشلل الدماغي

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

معايشة- علياء رفعت:

في ساحةٍ كبيرةٍ فارغةٍ إلا منهن، جلسن يقطعن ثِقل الانتظار بالحديث. يتشاركن الهموم، المسؤولية، أخبار جلسات العلاج ومدى التحسن الذي يحرزه أطفالهن المصابين بالشلل الدماغي، بينما يفكرن فيما قد يحمله لهم المستقبل في مجتمع يرفضهن ولا يجيد التعامل معهن. مُعاناتهن بدأت منذ وضعن أبنائهن، ليمروا بسلسلة من الإيذاء النفسي المتواصل في رحلةٍ تحملن مشقة خوضها وحدهم رغم انعدام دعم عائلاتهن في بعض الأحيان.

داخل مركز نور الحياة لعلاج أطفال الشلل الدماغي، التقى "مصراوي" هؤلاء المحاربات من أجل حياةٍ أفضل لفلذات أكبادهن، ليكشف عما يتكبدونه من ألمٍ ومُعاناة في ظِل غلاء أسعار العلاج في المراكز الخاصة وقِلة الاهتمام في المستشفيات الحكومية، فيما تطحنهن رحى سوء معاملتهن والخوف من أطفالهن.

1

عِند ممرٍ طويل بالطابق الثاني من المركز، كانت هناء تنتظر انتهاء جلسة العلاج الطبيعي لابنها الأوحد ذو الثماني سنوات "محمود"، تفتح واحدة من الأخصائيات باب إحدى الغُرف ثم تنادي باسم الطفل لدى انتهاء الجلسة لتتوجه الأم على الفور فتننقل ابنها إلى غرفةِ أخرى ليبدء جلسة تنمية المهارات ثم التخاطب فالعلاج الوظيفي.

"من ساعة ما جبت محمود وكُل الناس بعدت عني، بقيت تقيلة ع الدنيا لأن محدش مستحمل مرض ابني" قالتها هناء الأربعينية وهى تغالب دموعها واصفة مرارة علقت بحلقها منذ قدوم محمود للحياة "محمود مبيقدرش يعمل لنفسه حاجة ولا حتى دخول الحمام، الناس بينفروا منا ساعات بسبب الريحة".

طرقت هناء كل أبواب المستشفيات الحكومية التى تتواجد بها وحدات لمعالجة مرض ابنها ولكن المقام استقر بها منذ أربع سنوات وحتى الآن بمركز نور الحياة الخيري "مفيش اهتمام في المستشفيات الحكومية، الجلسة الواحدة 10 دقايق بـ10ج، وابني بياخد 3 جلسات في الأسبوع علاج طبيعي غير الوظائفي والمهارات والاكاديمي والتخاطب واحنا منقدرش نتحمل تكاليف المراكز الخاصة".

بمرور الوقت انعدمت حياة هناء خارج المركز تمامًا، يخشى البعض الاقتراب منها بسبب مرض ابنها، بينما تقتلها شفقة البعض الآخر ونظرات التفحص والاستغراب التى يخترقون بها جسد وحيدها "في المركز بلاقي أمهات زيِ حاسيين بوجعي وعندهم نفس مشكلتي، لا حد بيقرف مني أنا وابني ولا بلاقي اللي بيص لي ويمصمص شفايفه".

وتقول الدكتورة هبة هجرس، أمين مجلس شؤون الإعاقة، إنه لا توجد بمصر "إحصائيات دقيقة" للمعاقين وبالتالي لا توجد إحصائيات دقيقة أيضًا لشرائح الإعاقة المختلفة؛ ومنها الشلل الدماغي. وأوضحت هجرس أن المجلس القومي لشؤون الإعاقة تعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لاستخدام طريقة "واشنطن جروب" في رصد التعداد السكاني الذي يقوم به التعبئة والإحصاء العام الحالي -2016- وهذة الطريقة تعمل على تضمين أسئلة خاصة بذوي الإعاقة في الاستمارات التى يملئها المواطنون، لكي يفندها المسؤولون ويقوموا بعمل رصد دقيق للأعداد.

وتُرجِع هجرس عدم الإحصاء الدقيق لذوى الإعاقة بمختلف أنواعها إلى خجل البعض من الإفصاح عن إصابة فرد أو طفل من الأسرة بإعاقة ما، مُضيفة "هناك من يرفضون تقبل إصابة ذويهم بالإعاقة أو الاعتراف بها". وشددت هجرس على أن الحصر الدقيق يعني المزيد من الخدمات التى تقدمها الدولة لذوي الإعاقة، وأن البداية تأتي بحصر أعداد كل شرائح المعاقين ثم تفنيدهم إلى شرائح مُنفصلة حسب نوع الإعاقة ونسبتها.

"متعالجيهاش، متحمليناش فوق طاقتنا فلوس ومجهود لأنها حتى لو اتحسنت ومشيت هتفضل بردو طفلة معاقة" كلمات يرددها زوج هبة على مسامعها يوميًا لكي يثنيها عن "المرمطة" بابنته في سبيل معالجتها، بالنسبة للأب هى طفلة معاقة وستظل، ومن الأفضل لها أن تلزم المنزل حتى يحين أجلها. ضيق ذات يده جعله يكتفي بابنه الأكبر ولا يلتفت لعلاج طفلته "روجينا" التي يحسبها وكأنها لم تولد فلا يتكفل بمصاريفها اليومية أو العلاجية، بينما تعمل الأم بكدٍ لتوفر مصاريف العلاج "كل اللي بتمناه إنها تقدر تصلب طولها وتدخل الحمام لوحدها عشان محدش يكشف عورتها، وجوزي مش فاهم ده".

رحلة علاج روجينا بدأت منذ اليوم الأول لولادتها ، حيث عانت من نقص الأوكسجين أثناء ولادتها -كالعديد من الأطفال المصابين بالشلل الدماغي- ولم يتم وضعها في "حَضّانة" عقبها لنقص الإمكانيات في المستشفى، لتُصاب الطفلة بالشلل في أطرافها إلى جانب التأخر العقلي . توجهت الأم بغريزتها الفطرية لتسأل الجميع عما يجب فعله لعلاج طفلتها لتتمكن من إتمام أوراق التأمين الصحي وتعالجها في مستشفى "أطفال مصر" لمدة عامين دون أى تحسن يذكر أو يلحظ فبدأت معها رحلةً من نوعٍ آخر انفقت فيها كل ما لديها من أموال في المراكز الخاصة.

2

وتقول هبة حسن، مدير مركز نور الحياة لأطفال الشلل الدماغي، إن نسبة تحسن حالة الطفل تعود بالدرجة الأولى إلى نسبة الضمور في المخ، فإذا كانت نسبة الضمور بالغة كما هو في العديد من الحالات والتى قد تصل إلى الشلل الرباعي والتخلف العقلي، فالعلاج سوف يحافظ على وضع الطفل الحالي كي لا يتعرض إلى تيبّس العضلات والكسور أو الانتكاسات المرضية التى تجعل حالته تتدهور سريعًا مما قد يسبب وفاته، خاصةً وأن هؤلاء الأطفال يولدون بمناعة ضعيفة جدًا.

وتوضح هبة أن دورة العلاج في المركز متكاملة تستهدف العلاج الطبيعي، الوظائفي، الأكاديمي، بالإضافة إلى تنمية المهارات والتخاطب، وأن على الأم أن تلتزم بالعلاج والجلسات بشكل منتظم فلا تنقطع عنها لأن انقطاعها ولو لفترة بسيطة يعني "إنها محتاجة تبدأ من الأول وجديد كأنها معملتش حاجة".

"الجلسات في الشهر الواحد كانت بتوصل لـ4000ج وده من 3 سنين، غير مصاريف الأكل والبامبرز" تلك التكاليف التى تكبدتها الأم الثلاثينية قضت على كل ما تملكه الأسرة من أخضر ويابس، وجعلت الأم تقبع في المنزل بطفلتها فترة دون علاج. معاناة الأم لم تتوقف عن ذلك الحد بل امتدت للشارع الذي تلاقي فيه يوميًا الامتهان بسبب حالة ابنتها، فسائقو الميكروباصات يرفضون ركوبها لكونها ستعطل حركة الراكبين أثناء الصعود والنزول، بينما لا يفسح لها أحد المجال للجلوس في المترو رغم انها تحمل طفلتها ذو السبع سنوات.

"الأول كنت بتعامل بضعف، بس روجينا ادتني قوة بحاول أخد بيها حقي وحقها من مجتمع مش معترف بينا" قالتها السيدة الثلاثينة وهى توضح أنها أصبحت تعافر من أجل حقها في العلاج والمواصلات دون أن تأبه لنظرات الاستغراب من ابنتها، بل أصبح همها الأوحد "علاج صح لبنتي عشان تتحسن، وتوعية بإن أطفال الشلل الدماغي أطفال عاديين لا بيعدوا الناس ولا بيضروهم".

ما تتعرض له الأمهات من معاناة يومية وحِمل تكل به الجبال جعل مركز نور الحياة يتخذ إجراءات رسمية بإقامة جلسات تأهيل نفسي يتم فيها تقديم الدعم لهن من خلال الأخصائيين، بل إن مديرة المركز نفسه تقدمت لعمل دبلومة في التأهيل النفسي رغم كونها تقوم بالدور الإداري فقط مُعللة ذلك "نفسي أقدر أقدم كل الدعم والاهتمام للامهات عشان ميحسوش انهم لوحدهم وإن الكل رافضهم.. بنساعد باللي نقدر عليه لكن في أمهات تانية كتير في أمس الحاجة للدعم ده ومش لاقينه".

(3)

لا تختلف "هنا" عن محمود وروجينا سوى في سبب إصابتها بالشلل الدماغي، حيث أصيبت به نتيجة لخطأ قام به الطبيب في عملية الولادة. ورغم أن والدتها لم تحظي بأى قدر من التعليم إلا أن وعيها الفطري دفعها لاكتشاف مرض طفلتها لتتوجه لمعهد شلل الأطفال لعلاجها هناك.

غلو ثمن الأدوية التى تم وصفها لهنا جعل "زمزم" والدتها تتوجه لمتابعة حالتها في مستشفى الدمرداش لتستطيع أن تصرف الدواء بالمجان، أو بملغ زهيد. لكن ذلك التفكير لم يقيها المعاناة حين قررت أن تُخضع ابنتها لجلسات العلاج الطبيعي هناك "أوقات كنت بروح هناك واعد اليوم كله وبعدين يقولولنا مفيش دكاترة فا اخد بنتي وامشي".

لهذا قررت زمزم أن تلجأ إلى المركز الخيري لعلاج ابنتها، والذي يقوم بفحص الحالات اجتماعيًا قبل قبولهن، لتدفع كُل حالة ما يناسب دخل الأسرة الشهري في مبلغ أقصاه مِئة جنيه، وأقله عشرين جنيه يحصلون بها على كل الجلسات المطلوبة لعلاج الأطفال، بالإضافة إلى حصولهم على دعم مادي من المركز لشراء الدواء.

4

في مستشفى الدمرداش الحكومي، اصطفت العديد من النساء اللائي حملن أطفالهن أمام وحدة التأهيل الطبيعي، لم يختلف وضعهم كثيرًا عن وضع النسوة بمركز نور الحياة، الفارق الوحيد الذي أقرونه أن تحسن أبنائهن بطىء حتى إنه لا يكاد يذكر، وأنه تم تخفيض عدد الجلسات التى يحصلون عليها من ثلاث جلسات بالاسبوع إلى اثنتين. فيما تتكلف الجلسة الواحدة عشر جنيهات وتبلغ مدتها ربع ساعة وهى مدة أقل كثيرًا من الساعة التى ينبغي أن يقضيها الطفل بالجلسة لكي يبدوا التحسن واضحًا.

ويقول أخصائي بوحدة التأهيل الطبيعي -رفض ذِكر اسمه- في المستشفى ذاته، إن السبب الرئيسي الذي جعل عدد جلسات العلاج الطبيعي المقدمة للأطفال يتضاءل عددها من ثلاثة جلسات إلى جلستين أو جلسة واحدة أحيانًا، فيما تتقلص مدتها من ساعة إلى ربع ساعة كحد أقصى؛ هو نقص أخصائيين العلاج الطبيعي، وذلك نتيجة لعدم التعينات التى أوقفتها الحكومة وقلة عدد الاخصائيين الحاليين بعد أن بلغ بعضهم السن القانوني للمعاش. فكل طبيب أو استشاري مسؤول عن اثنا عشر حالة والعدد قابل للزيادة مع تزايد عدد الأطفال المتقدمين للعلاج وتضاءل عدد الأخصائيين، مما يضطر الأطباء إلى تقليص مدة الجلسة وعدد الجلسات الاسبوعية.

"نظرات الناس مبترحمش " قالتها زمزم باكية، فهى لا ترغب إلا في أن يحترمها الآخرون ولا يثقلونها بأسئلة عن مرض ابنتها ونظرات مُسيئة تنهشها، مُضيفة "نفسي أحس إن الناس هتقبل بنتى ومحدش هيسيئلها بعد ما أموت".

فيديو قد يعجبك: