إعلان

تحرُّش.. ولكن!

تحرش ولكن !!!

تحرُّش.. ولكن!

06:45 م الأحد 09 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كتب - هبة صلاح

باحثة ومترجمة بدار الإفتاء المصرية

شهدت الأسابيع القليلة الماضية الحديث عن حالات تحرش بشكل شبه يومي في سياقات مختلفة، لكن رواد شبكات التواصل الاجتماعي أجمعوا على أن بيان مشيخة الأزهر الذي صدر منذ أيام جاء في وقت فارق، وكأنه قبلة الحياة التي أعادت الروح للمؤسسة الدينية السنية في مصر، وسطرت بذلك بداية عهد جديد بالخطاب الديني.

سواء اتفقنا أو اختلفنا على تصنيف أشهر حالات التحرش التي شهدها المجتمع الأيام السابقة، وعلى رأسها قضية منة جبران أو القصة الشهيرة بفتاة التجمع، فالقضية ليست جديدة، وإنما الجديد هو طريقة وأسلوب التفاعل معها، وهذا مما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي. فالتحرش موجود، لكن أصبح لدينا قنوات يمكن من خلالها تناول مثل تلك القضايا كل بحسب خلفيته الثقافية والاجتماعية والعلمية والدينية أيضًا، لكن ما أجمع عليه رواد السوشيال ميديا، مع كل هذا التنوع والاختلاف والخلاف أيضًا، أن بيان الأزهر الشريف يعتبر ردًا قويًا وواقعيًا حول تلك القضية، لكن يبقى السؤال: لماذا نال بيان الأزهر كل هذا الإعجاب من مستخدمي السوشيال ميديا، وهم في الغالب لا يرون ميلا حقيقيا لما يصدر من بيانات رسمية حول قضايا الرأي العام؟!

بيان الأزهر قد وضع نصب الأعين التعريف الأمثل لكلمة "تحرش" والتي ربما يتناولها البعض دون معرفة حقيقية لمعنى الكلمة، حيث جاء في نص البيان: "التحرش - إشارة أو لفظًا أو فعلًا- هو تصرف محرم وسلوك منحرف، يأثم فاعله شرعًا، كما أنه فعلٌ تأنف منه النفوس السويّة وتترفع عنه، وتنبذ فاعله، وتجرمه كل القوانين والشرائع".

ومن هذا السياق يتضح جليًا أن "التحرش" هو سلوك منحرف خارج عن الفِطرة السوية - سواء صدر من رجل أو امرأة - سواء كان بالإشارة أو اللفظ أو التعدي الحسي، يخرج بفاعله عن نطاق الإنسانية المستقيمة والخلق القويم الذي أقرته الشرائع السماوية ويعاقب عليه القانون.

لذلك من يرى أن رأي الأزهر في البيان مٌلِزم دينيا وليس من حق المؤسسة الدينية أن تتصدر المشهد، نقول له إن تعريف التحرش الوارد في سياق البيان بنى الحكم الشرعي بتحريم هذه الفعلة بناء على الفطرة البشرية التي تشترك فيها الإنسانية جميعا حتى من لم يؤمن بأي دين، حيث إن التعدي على خصوصية الآخر ضرب من ضروب الخلل في سلوك الإنسان ساهم في وجوده وتكوينه عوامل كثيرة منها قلة الوازع الديني، الذي لم يعتبره الأزهر حجة أو بلغة أخرى "شماعة" نبرر من خلالها السلوك المنحرف للمتحرش كما جاء في البيان "فتبرير التحرش بسلوك أو ملابس الفتاة يعبر عن فهم مغلوط؛ لما في التحرش من اعتداء على خصوصية المرأة وحريتها وكرامتها".

على الجانب الآخر نجد فئة هاجمت نص البيان وتشدقوا بالحجاب وأنه على المرأة ستر جسدها حتى لا تتعرض لمثل تلك المضايقات حتى ذهب البعض ممن يطلقون على أنفسهم "دعاة" بالتعلل بأن المنتقبة عليها ألا ترتدي جوربا شفافا لونه "بيج" ولا تحمل شنطة لونها "أحمر" أو "ذهبي" في إشارة إلى أن تلك الأشياء قد تكون سببا في تعرضها للتحرش والمضايقات لأنها عندئذ ستجذب انتباه الجنس الآخر! الأمر الذي أثار حفيظة من يرتدين الحجاب بل والمنتقبات معلنات أنهن يتعرضن للتحرش بنسبة كبيرة وهذا يثبت ما جاء في سياق بيان الأزهر أن التحرش أمر غير مرتبط بملابس أو سلوك الطرف الآخر وإنما هو "خلل في السلوك".

علاج التحرش دينيا أمر محسوم بالنص الشرعي، فإذا كان النظر هو بمثابة المدخل لهذا الفعل لدى بعض منحرفي السلوك، فجاء النص القرآني القطعي الثبوت والدلالة مخاطبًا الرجال والنساء على حد سواء كما في قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...}.. [النور: 30]، وجاء الخطاب للنساء: {قُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...{.. [النور: 31]. فغض البصر ابتداء يندرج تحته الانصراف وعدم الانشغال بخصوصيات الآخر سواء في وسائل المواصلات أو في الطرق والأماكن العامة أو في العمل وتأتي شبكات التواصل الاجتماعي في وقتنا الحالي على رأس القائمة.

العلاج الثاني للتحرش هو عدم التدخل فيما لا يعنينا أو التعرض لكل ما يُفضي إلى الخوض في خصوصيات الآخر كما جاء في قول النبي محمد - صلى الله عيه وسلم-: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، حديث حسن، رواه الترمذي وغيره. فهذا نص نبوي شريف في تأديب النفس وتهذيبها، وصيانتها عن الرذائل والنقائص، وترك ما لا جدوى فيه ولا نفع.

لكن خاتمة بيان الأزهر الشريف خاطبت الجهات المعنية بنشر الوعي حول الأمر لتخرج بذلك عن إطار طريقة العرض المألوف للبيانات، بل اقترحت حلول للتعامل مع المشكلة وهذا من أهم الأسباب التي أشاد بها المهتمون بالقضية على المستوى الاجتماعي، حتى وإن رأي البعض أن البيان جاء متأخرا، وتخطي الفجوة بين العلوم الاجتماعية والنص الديني "ويدعو الأزهر الشريف إلى تفعيل القوانين التي تجرم التحرش وتعاقبه على فعله، كما يدعو المؤسسات المعنية إلى رفع الوعي المجتمعي بأشكال التحرش وخطورته، والتنفير من آثاره المدمرة على الأخلاق والحياء، خاصة التحرش بالأطفال، وتكثيف البرامج الإعلامية لتعريف المواطنين بما يجب عليهم من تصرُّفٍ حال وقوع حادث تحرش، وبما يردع المتحرش ويوفر الحماية للمرأة أو الفتاة المتحرش بها، كما يطالب وسائل الإعلام بتجنب بث أي مواد تروج للتحرش أو تظهر المتحرش بأي شكل يشجع الآخرين على تقليده."

من هنا يبدأ التواصل والحوار بين المؤسسة الدينية والمجتمع ونكون قد وجدنا أول الغيث في تجديد الخطاب الذي يحترم أحوال وتغيرات المجتمعات ونخرج به من قاعات المؤتمرات إلى الواقع، لكن الطريق ما زال طويلا.

إعلان