علاقاتٌ في الأَسْرِ.. حكايات حُرَّاسِ "جنينة الحيوانات"

"يا جنينة الحيوانات يا سكر يا نبات.. فيكي الفيل والزرافة وقرود، صبيان وبنات.. أحلى جنينة في الدنيا جنينة الحيوانات".. من لم يكن محظوظاً بزيارة "حديقة الحيوان" في الجيزة خلال طفولته، فإن كلمات هذه الأغنية أثرت في وجدانه وكونت لديه صورة واضحة عن الحديقة التي باتت زيارتها حلماً ربما حققه البعض متأخراً. "أحلى جنينة في الدنيا"، هكذا يصف الناس "حديقة الحيوانات"، وربما لا، لكن هل تساءلت يوماً كيف تتزين الحديقة لاستقبالنا؟ وكيف يتعايش العاملون بها مع الحيوانات، وكيف يُعِدُّونها لاستقبال الزوار كل يوم؟ هل شغلت بالك يوماً العلاقة بين الحيوان والعامل القائم على خدمته، وطبيعة العلاقة التي تجمع بينهما؟ عادة لا يرى الزوار من هذه العلاقة إلا الدور الذي يمارسه الحارس كحلقة وصل بينهم وبين الحيوان. لكن خلف القضبان والأسوار يوجد الكثير من الكواليس والأسرار والقصص والعواطف التي تربط بين الحيوان ومن يقوم على رعايته من العاملين "الكلافين".

دائما ما نسمع عن حكايات وأخبار عن حديقة الحيوان من خارج أسوارها، كثير منها يحمل سلبيات ولديه مشكلات. الحديقة التي كانت يوما ما أكبر وأول حديقة حيوان في أفريقيا، ربما ليست في أفضل أحوالها اليوم لأسباب عديدة.

على مدار سنة كاملة، رصد "مصراوي" بالكلمة و الصورة، على فترات متباعدة، وفي زيارات مفاجئة، العلاقة الإنسانية بين الحُرَّاس والحيوانات، وما يدور بين "الصديقين" خلف قضبان القفص بعيداً عن أعين الزوار.

ربما لم يتسن لنا رصد كل اللحظات بين الحارس والحيوان، ولكن حاولنا بقدر الإمكان إلقاء نظرة على ما يقبع خلف أسوار الحديقة.

إعلان

إعلان

وحيد

"الحيوانات أصدقائي"

علاقة الحُرَّاس (الكلافين) والحيوانات، تتوثق كلما طالت العشرة بينهم. "وحيد أبومانع" يعمل في حديقة الحيوان منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يختزل العلاقة بينه وبينها في كلمتين "الحيوانات أصدقائي".

image-1

حمدي حسب الله

"أنا هنا عشان أخدم الحيوان"

قالها عم حمدي الذي يعمل في حديقة الحيوان منذ 22 عاماً، قبل أن يضيف: حاولت التقدم للعمل في مجالات أخرى، لكن لم تفلح مساعيَّ، فتأكدت أن قدري هو أن أعمل في رعاية الحيوانات، اعتبرها مسئولة مني كأطفالي.

يجلس عم حمدي ساعاتٍ طويلةً يومياً بجوار منزلي "اللاما" و"الخرتيت"، حيث يتولى مسئوليتهما. ينظر الرجل المسن للخرتيت بحزن، ويقول: "الخرتيت حزين لأنه وحيد ومش معاه وليف، ومهما نعمله بينام كدة زي ما أنت شايف، لأنه محتاج حد معاه، لكن صعب نجيب له واحدة دلوقتي، لأنه حيوان نادر".

image-1

إعلان

إعلان

نادي عبد الحليم

٢١ عاماً عمل خلالها عم نادي في حديقة الحيوان. رعى خلالها الكثير من الحيوانات، "أول حاجة بعملها لما بوصل الصبح إني أتمم على الزرافة، وبعدين أقعد مع الكلافين كلهم نشرب شاي، وبعدها يتحرك كل واحد لشغله".

لم ينسَ "عم نادي" حتى اليوم "مذبحة إعدام الطيور"، يصفها الرجل بأنها أسوأ ذكرياته، ويحكي قائلا: "زمان أيام إنفلونزا الطيور لما انتشرت وكانوا بيعدموا الطيور في الجنينة.. قلت لهم لا أبداً أنا مقدرش أقتل حيوان بإيدي.. يعني أنا عندي 55 سنة وعارف إن العجل والخروف ربنا محلل لنا أكلهم.. لكن برضو أنا مدبحهمش.. مش خوف لكن أنا بحب الحيوانات".

جدير بالذكر أن الزرافة الأم تنتظر وليدها الذي يصل خلال أسابيع قليلة، بينما خسرت وليفها الذي مات منذ عدة أشهر.

محمد عبد العزيز

انهمك محمد عبدالعزيز في دهن جسد الفيلة بسائل أبيض، اقتربت منه، وسألته عما يفعل، ليرد: "لازم أدهن جسمها بالجلسرين.. عشان أدفيها وأحافظ على جلدها رطب".

يعمل محمد في الحديقة منذ ٢٥ عاماً، ويقول عن عمله: "أنا عشرتي مع الفيلة من زمان، وبالنسبة لي الحيوان ده كل حاجة وزي حياتي، مش عايز أقول لك إنه أغلى من ولادي لكن في غلاوتهم بالظبط".

"نعيمة... خدي هنا يا فيلة! تعالي!" ينده عم محمد بصوت قوي آمراً الفيلة الوحيدة في الحديقة التي تبلغ من العمر ٣٧ سنة. تقل نبرة صوته كلما اقتربت منه.

من القوة والشدة إلى الحنية تتغير نبرته سريعاً: "تعالي أقفي هنا عشان أتصور معاكي"، تقف نعيمة وترفع زلومتها تحية للصورة، "تفتكر هي هاتسمع كلامنا كده إلا لو كنا بنعاملها كويس!"، قالها الرجل ليؤكد عمق العلاقة بينهما، موضحاً: "الحيوان طبيعي إنه ممكن يغدر في أي لحظة في أوقات زي وقت التزاوج.. للأسف الفيلة هنا ما تقدرش تخلف لأنها في الأسر.. لازم عشان تتكاثر تكون مطلوقة في الطبيعة".

image-1

صالح محمد

في ناحية بعيدة عن زوار بيت الفيل، جلس صالح محمد، أمام جوال من البطاطا، وانهمك في تقطيعها وتنظيفها قبل إلقائها في قفص خشبي.

"اديك شايف أهو إنت جيت على غفلة لقيتني بقطع البطاطا وبنضفها للفيل.. دي كمية محدودة مصروفة له تحت إشراف طبيب بيطري"، قالها الرجل وهو يشرح طبيعة العلاقة بينه وبين الحيوان، موضحاً: "ليه بقطعها كده عشان براضي بيها الزوار ويفرحوا أولادهم بيها، ولو حد من الزوار إداني حاجه يبقي خير وبركة.. لو مفيش يبقى كفاية العيال فرحت".

22 عاماً، عمل خلالها صالح محمد في الحديقة، قضى منها 13 سنة مع الفيل، وشاهد خلالها الكثير. يقول بأسى: "الزائر لو يسمع الكلام أنا هرتاح وهو يرتاح.. تعرف أنا لو سبت الحيوان ده للناس هيموت خلال يومين.. وخسارة ده حيوان نادر لو مات مش هنعرف نعوضه أبداً.. أحياناً ناس تستجيب لما نتضايق وتقول عندك حق.. وناس تانية تشتمنا بس هانعمل إيه".

image-1

إعلان

إعلان

image-1
image-1
image-1
image-1
image-1
image-1

أحمد كاسب

٢٠ عاماً قضاها عم كاسب في العمل مع الوحوش، فهو المسئول عن الأسود، يقول الرجل: "دي أخطر شغلانة في الجنينة وعايزة قلب جامد".

"مثلما يحتاج الإنسان في شيخوخته لرعاية خاصة تحتاج الحيوانات خاصة التي تعيش في الأسر لاهتمام خاص"، يوضح عم كاسب، ويقول عن متولي أشهر أسد في الغابة: "ده أكبر أسد هنا وأقرب واحد لقلبي.. ولازم آخد بالي منه لأنه كبر خالص.. عشان كده بقطع له اللحمة حتت صغيرة عشان متتعبوش في الأكل".

يضيف الرجل، الذي اكتسب معرفته عن الأسود من خلال خبرته الشخصية في التعامل معها: "العمر الطبيعي للأسد 15 سنة بالكتير.. لكن متولي دلوقتي داخل في 24 سنة.. والحيوانات في الأسر ممكن تعيش أطول بسبب الرعاية الطبية، والأكل اللي بيتوفر لهم".

كاسب
كاسب

يلحظ عم كاسب تعجبنا من حديثه، فيبادرنا قائلا: "أيوه مساحة بيوت الأسود صغيرة، لكن إحنا بنخرجهم في مجموعات بالدور في الجنينة الكبيرة اللي ورا عشان يتشمسوا ويتمشوا! أنا أتمنى الجنينة دي تتقسم لكذا جزء فنقدر نخرج عدد أكبر من الأسود عشان يشوفوا الشمس أكتر وده بيبقى حلو لصحتهم".

اتفق طبيب بيطري بالحديقة مع عم كاسب، قائلا: "مش عارفين نقسم الحديقة لعدم وجود ميزانية كافية، ولو قدرنا نعمل ده هيكون له بالغ الأثر على الحيوانات وأيضاً على الزوار، لأن الزوار سيتمكنون من رؤية الحيوانات في بيئتها الطبيعية بدلاً من الأقفاص".

محمد فتحي

"أهم شيء سلوكك مع الحيوان في أكله وشربه ومتابعته، ده حيوان محبوس، زيه زي إنسان عزيز عليك في الحبس مش هاتروح تزوره ويصعب عليك؟".. بهذه العبارة لخص عم محمد فتحي علاقته مع الكودو الكبير والغزلان والكانجارو، التي امتدت لـ١٧ سنة.

يشير الرجل إلى القفص، ويتابع حديثه قائلاً: "ربنا سخر لنا الحيوانات دي وجت هنا وبقت في الأَسْر، يعني بقت أمانة في إيدينا، لازم نحافظ عليها ونعاملها أحسن معاملة".

"الكودو الكبير ده جه هنا ما كانش حد أبداً يقدر يقرب له، دلوقت زي ما إنت شايف".. قالها الرجل مؤكداً العلاقة الخاصة التي تجمعه بالحيوان: "أنا لو حد جه ضايقه من الجمهور بعمل مشكلة معاه ومشكلة كبيرة كمان! ده بيت الحيوان وما ينفعش حد ييجي يضايقك في بيتك".

image-1

إعلان

إعلان

محمد رزق

داخل قفص الدببة، وقف محمد رزق يغني للحيوانات بصوته العذب، وينادي على كل منها باسمه مناولاً إياها الطعام.

يحرص الرجل الذي يعمل بالحديقة منذ ٢٩ عاماً، على اللعب مع الدببة أمام الزوار، ويتحدث معنا قائلاً: الدببة معروفه بخطورتها، ولكن بعضها قد يصبح صديقك، مرة ورا مرة لما تطبطب عليه وتكلمه وتأكله بيتعود عليك أنا عملت كده مع دببة كتير".

"أبويا كان شغال هنا، وأنا كنت باجي معاه على طول، وكان حلم عمري أشتغل هنا مع الدببة ومع الحيوانات، ما فيش حاجة تخليك تستحمل الشغلانة دي إلا لو كنت بتحب الحيوانات بجد، أنا بقعد معهم هنا أكتر من بيتي".

image-1
image-2
image-2
image-2
image-2
image-2
image-2

سعيد كامل

بهدوء يتحرك عم سعيد وسط الحيوانات، طباعه السمحة لم تتغير طوال فترة عمله في حديقة الحيوان منذ 26 عاماً، "أنا ولادي لما كانوا يبقوا عيانين أبقى قاعد جنبهم طول الليل.. أهو الحيوان زي الطفل ميقدرش يقول لك هو تعبان من إيه ولا عنده إيه.. مرة كانوا بيخيطوا جرح لحيوان أنا عيطت عشانه، لأنه متألم، وكل ما أفتكر أعيط لأنه يصعب علي".

image-1
image-1

على بسطة من القش يجلس "عم سعيد"، أمام الحطب المشتعل ليعد الشاي لزملائه الكلافين، ويغمس النعناع الأخضر، الذي يزرعه بنفسه في قطعة أرض صغيرة، قبل أن يحكي لنا بفخر عن أولاده وأحفاده، وعن عمله في الحديقة الذي لم يكن مقدراً له حيث غادر بعد يومين من بداية عمله، ثم أرسل مدير الحديقة حينها لاستدعائه وألح عليه ليبقى في عمله.

"مش عارف هو شاف إيه فيَّ.. لكن يمكن عشان أنا بحب الحيوانات لأني فلاح، وكنت براعي بهايم.. في الآخر دي حكمة ربنا.. والواحد راضي" يقول عم سعيد والابتسامة على وجهه.

إعلان

إعلان

محمود الأفندي

"عارف يا بيه أهو فرس النهر ده هو اللي قتل مينا موحد القطرين، رغم إنه حيوان نباتي لكنه عدو وقاتل للإنسان"..قالها عم محمود الأفندي، وهو داخل القفص يتجمع حوله ما يقرب من ٥ أفراس النهر.

الرجل الذي يعمل منذ ٢٤ سنة بحديقة الحيوان، قضى منها ٨ سنوات فقط مع فرس النهر، لا يخاف الاقتراب منها، فهو مطمئن لها وهي أيضاً، ولكن "بالطبع لابد من بعض الحذر في كل الأحوال".

image-1

في الليل، تتبدل حديقة الحيوان، تتحول لغابة موحشة بدون زوارها، وأصوات الأطفال ولهوهم، يقول عم وحيد: "الجنينة يعني الناس تيجي تاخد بحس الحيوانات.. والعيال تفرح وتنبسط وتفرح الحيوانات".

image-1
image-1
image-1
image-1
image-1
image-1

في الخامسة مساء، تغلق الأقفاص على الحيوانات، فيما يغادر "الكلافون" إلى منازلهم لقضاء بعض الوقت مع أسرهم، قبل العودة لممارسة عملهم مع "أصدقائهم" في السابعة من صباح اليوم التالي.

قصة مصورة: روچيه أنيس

مونتاج: مصطفى محسن

تنفيذ: مصطفى عثمان

إشراف عام: علاء الغطريفي