صياد رزق

الساعة لم تتجاوز العاشرة صباحا، كانت الحرارة معتدلة، صعد السياح على سطح الباخرة النيلية بعد أن انتهوا من إفطارهم. جلسوا يستمتعون بشمس فبراير قبل الوصول إلى محطتهم الأخيرة (الأقصر)، والتي باتت قريبة، لكن قبل هويس مدينة إسنا بمسافة كيلو متر، فاجأهم ثلاثة صبية، بإلقاء حبل على أحد أطراف الباخرة، ليشبكوا مركبهم الصغير بها.

في هذه اللحظة، تحرك أمن الباخرة بسرعة وطالبهم بفك الحبل والانصراف، لكن الصبية تجاهلوا ذلك، أخرجوا بضاعتهم، وهي جلابيب ومفروشات يدوية الصنع، بدأوا الصياح بلغات أجنبية مختلفة مختلطة بلهجتهم الصعيدية، حتى يلفتوا انتباه السياح ليشتروا، وضعوا منتجاتهم في أكياس، أحكموا غلقها، ثم ألقوها إلى أعلى لتستقر على سطح الباخرة. رغم المسافة غير الهينة بينهم، وصلت الأكياس واحدا تلو الآخر، دون أن يفلت أي منها!

بدا مشهدًا غريبًا لمن يخوض الرحلة للمرة الأولى. كيف يستطيع هؤلاء بمهارة شديدة إلقاء بضاعتهم إلى أعلى؟ لماذا لم يعيروا حديث أمن الباخرة اهتماما؟ لماذا لا يخشون على حياتهم من هذا الفعل؟

كنت واقفة على سطح تلك الباخرة عندما قررت أن أتعرف إلى هؤلاء.

إعلان

إعلان

لم يتركوا هذا الحديث يعطلهم عن عملهم، استكملوا نداءاتهم بالإنجليزية: "القطعة بـ 5 دولار"، ظلوا هكذا لمدة 10 دقائق، لكنهم لم يبيعوا شيئا، وعادت لهم البضاعة بنفس طريقة إلقائها، فانصرفوا غير راضين، يشعرون بخيبة أمل حادة.

رغم عدم تجاوب سياح الباخرة مع السلع التي عرضها هؤلاء، لكن لم يُبِد أي منهم تذمرًا من هذا الفعل، فقالت سيدة صينية الجنسية: "إنها تعرف ما تعاني منه السياحة في مصر، وهذا عمل جيد ما لم يسبب ضررا"، وهو ما زاد الفضول لمعرفة سبب اعتراض أمن الباخرة على وجودهم، حيث قال أحدهم: "بنخاف يكسروا إزاز الباخرة، أو يندس حد بينهم، بس بنسكت عشان عارفين إن ده رزقهم الوحيد".

لكن الباحث الأثري والمرشد السياحي بالأقصر، فرنسيس أمين، تحدث عن جانبين أحدهما إيجابي، والآخر سلبي: "هذه الظاهرة تحدث منذ أواخر الثمانينيات تطورًا لفكرة التجارة في النيل؛ الجانب الإيجابي منها هو الجزء الفلكلوري أمام الأجانب خاصة أنها موجودة منذ سنوات، أما الجانب السلبي، فهو أن بعض البائعين لا يدركون الطريقة اللائقة للتعامل مع السياح، كما أنهم قد يعرضون أنفسهم والباخرة للخطر".

بعد شهرين – إبريل 2018


قررت العودة لمقابلتهم مرة أخرى، لكن عن قرب، وهو ما لم أستطع فعله في المرة الأولى كوني نزيلة مقيدة ببرنامج الباخرة.

تزامنت العودة مع موافقة البرلمان على مشروع قانون يقضي بفرض غرامة تصل إلى 10 آلاف جنيه على كل شخص يضايق السياح سواء كان بائعًا أو شحاذا.

إعلان

إعلان

التقيت هذه المرة أشخاصًا جددًا غير محمود ومصطفى ورمضان.

انتصف النهار في مدينة إسنا، التي تبعد نحو 70 كم عن الأقصر، وبدأ يوم عمل جديد لمحمد وحسيني اللذين يبيعان بهذه الطريقة منذ 15 عاما، أحدهما يجدف، والآخر يصيح ويبيع، ويتبادلان الأدوار أحيانًا.

كان يوم ثلاثاء، وحسب الجدول الخاص بالموسم، الذي يبدأ من سبتمبر إلى مارس، فيوم الثلاثاء ومعه الأحد والجمعة هي أيام الذروة، حيث تمر بواخر سياحية كثيرة عكس باقي أيام الأسبوع.

عند متنزه يسمى "الحديقة الدولية"، أحد مراسيهما، والذي يبعد عن الهويس بمسافة قليلة. يضعان قاربهما الأول ليكون في استقبال البواخر (البوابير بلغتهم) القادمة من أسوان متجهة إلى الأقصر (بحري)، بينما يتركان القارب الثاني في إدفو، ليذهبا إليه عندما تعكس البواخر اتجاهها (قبلي). جلسا يحكيان في مقهى المرسى، حتى حلت الثالثة ظهرًا، وهو موعد يشير إلى ضرورة الاستعداد لاستقبال البواخر التي تبدأ المرور بإسنا في الرابعة، فانطلقا ليفعلا ما اعتادا عليه.

إعلان

إعلان

إعلان

إعلان

”إسنا مبقتش على خريطة البرامج السياحية والسياح مبيعدوش عليها إلا في النيل فلازم نروح لحد عندهم“

محمد وحسيني اللذان يعمل معهما نحو 50 قاربًا آخر

قصة: مارينا ميلاد

فيديو: إسلام مصدق – مارينا ميلاد

رسوم: سحر عيسي

إنفوجرافيك: احمد ياسين

تنفيذ: مصطفى عثمان

إشراف عام: علاء الغطريفي