إعلان

الوجه الآخر لجمال عبد الناصر

الوجه الآخر لجمال عبد الناصر

10:31 ص الأربعاء 30 سبتمبر 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - الدكتور خالد عزب:

سأل حفيد عربي جده: من هو جمال عبد الناصر؟! دهش الجد من سؤال طفله، فهو الذي عاش مع جمال عبد الناصر لحظات الانتصار في حرب السويس سنة 1956، ولحظات تحرير الدول العربية من الاستعمار من الخليج إلى المحيط، وأيام كان للعرب عز يعتزون به ومجد يفتخرون بتحقيقه، مع زعيم لم ينكسر حتى لحظة الهزيمة، ولكل من يسأل: من هو جمال عبد الناصر؟ ولكي نروي ظمأ المعرفة، ولكي نجدد ذاكرة العرب المعاصرة.. نقدم وجه آخر لجمال عبد الناصر.

من هو جمال عبد الناصر؟
سؤال حان الوقت لطرحه، فكان جمال عبد الناصر نتاجًا لطبقة موظفي الدولة المصرية، وصعيد مصر، فحمل معه ثقافة طبقة الموظفين وتقاليد الصعيد المصري، عاش جانبا من حياته بين الإسكندرية والقاهرة، فعرف مصر بأبعادها المختلفة.

إذا نحن أمام معطيات أساسية أثرت في هذه الشخصية التي كان انضباط التعليم المصري هو المكون الآخر لشخصيته، فضلا عن الحركة الوطنية المصرية التي تراوحت بين الوفد المعبر عن الطبقة الوسطى وكبار الملاك للأراضي، والأحزاب الشيوعية والحركات اليسارية ثم بروز جماعة الإخوان المسلمين، حركة تموج بها مصر جعلت جيل عبد الناصر قارئ حاد في نقاشاته يحمل هموم الوطن، متفاعل مع تيارات سياسية عديدة.

هل استطاع عبد الناصر أن يكون شخصية مستقلة، لعل قوة شخصية جمال عبد الناصر قد أتت من أصوله العربية الصعيدية التي تحمل في داخلها درجة عالية من الجدية، فضلا عن قدرة على المراوغة ظهرت بعد ذلك في قدرته على استيعاب زملائه في مجلس قيادة الثورة ثم التخلص منهم فردا فردا دون أن يتكتلوا عليه، وبات السادات هو أبرع المراوغين الذين عاشوا معه، فالسادات لأنه مارس العمل السياسي الوطني قبل الثورة ظل زملاء عبد الناصر في مجلس قيادة الثورة يعاملونه على أنه زميل، بات كل واحد منهم ينتظر دوره في تولى منصب نائب الرئيس، هذه الكعكة التي كان جمال عبد الناصر يضعها أمام عين كل واحد من أعضاء مجلس قيادة الثورة.

في سنة 1950م بعد حرب 1948م، بدأ جمال عبد الناصر التحول من قائد لخلية ثائرة في القوات المسلحة إلى محرك لربط عدة تنظيمات وخلايا في القوات المسلحة إلى محرك لربط عدة تنظيمات وخلايا في القوات المسلحة، فجمعها جميعا فكان منها اليساري والشيوعي والوطني ومن ينتمي للإخوان المسلمين، لم يكن تنظيم الضباط الأحرار كتلة واحدة ذات وحدة متجانسة، لكن استفاد جمال عبد الناصر من حالة الغضب عقب حرب 1948، ومن التحاق أبناء الطبقة الوسطى ودون الوسطى بالقوات المسلحة عقب معاهدة 1936، ولأن خيوط هؤلاء جميعا كانت في يد جمال عبد الناصر فبالتالي كان هو المحرك الأساسي لهذا التنظيم، الذي كان عماده اليساريين والإخوان، وبينهم مجموعة متناثرة، أبرزها مجموعة الضباط التي كانت على علاقة وطيدة بعبد الناصر.

كان الإخوان هم الطرف المساند لثورة 23 يوليو، حتى وضع سيد قطب شعار "الاتحاد والقوة والعمل"، ولأن محمد نجيب لم تكن له جذور ضاربة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، فتم الإطاحة به، وكان جمال عبد الناصر يخوض معركة السيطرة على مصر مع الإخوان المسلمين، كان صراعًا شرسًا على السلطة أخذ عبد الناصر معه عامة المصريين بعد قرار تأميم قناة السويس الذي دغدغ به مشاعر المصريين والعرب، وأذهل به العالم، ليخسر الإخوان المسلمين معركتهم به.

كان عبد الناصر طويلا ذا بنية جسمانية قوية وملامح مصرية صادقة ونظرة حادة قوية تجذب من ينظر إليه وتثير الرهبة في نفسه، هذه الملامح جعلت شخصيته مهيمنة على الناس، فقد رأوا فيه الزعيم، ولأن موروث الفرعون موروث تاريخي راسخ في أعماق المصريين فقد جعلوه فوق الجميع، حتى نسوا أنه زعيم مهزوم فخرجوا بعد هزيمة 1967، ليجعلوه مستمرا في الرئاسة، لماذا؟ لأن عبد الناصر عودته كانت تعني رفض الهزيمة، وجوده يعنى الشموخ والكبرياء، غيابه يعنى الهزيمة وقبول شروط العدو، وعلى الجانب الآخر فقد أذهل المصريين الغرب بتمسكه بعبد الناصر الرمز وليس الرئيس.

أدرك عبد الناصر أنه بعد ثورة 23 يوليو وتحول مصر من النظام الملكي للجمهوري، فكان لابد من إعادة بناء شخصية مصر لتلائم التحول الجديد، تسلم فتحي رضوان مهمة وزارة الإرشاد لتقدم لمصر ثقافة تلائم هذه المرحلة فصدرت كتب الجيب كالمكتبة الثقافية وآلاف المطبوعات وصارت مجلات كالهلال وروز اليوسف ومجلة المجلة وغيرها كثير تعبر عن روح الثورة وثقافة هذا العصر، كما دفع بعبد الحليم حافظ وأم كلثوم في مجال الغناء، وعبد الباسط عبد الصمد ومحمد خليل الحصري والمنشاوي وغيرهم ليكون صوت القرآن الكريم على الطريقة المصرية، بل واستوعب مفكرين وكتاب كطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، بل وأصبح له مشروعًا مصريا روحًا وقالبًا، ضخ عبد الناصر في مصر الدماء فشعر كل مصري أن البلد بلده، كل في الريف والمدن أشعره عبد الناصر أنه يعمل لأجله لدرجة صار معها هناك ولع باقتناء صورة لعبد الناصر عليها توقيعه، فخطاب عبد الناصر تحليله عبر سنوات حكمه موجة طوال الوقت إلى انه يعمل من أجل مصر ومن أجل الفقراء من المصريين.

أدرك عبد الناصر ضرورة أن يستفيد من هذا كله توطيد حكمه، فكما أعطى لأم كلثوم عظمتها وشعبيتها من المحيط للخليج عبر آلة الأعلام المصري مستغلا موهبتها، غنت له أم كلثوم لتوطد شعبيته من المحيط إلى الخليج، كان قراء القرآن الكريم سفراء لمصر في الظاهر ولعبد الناصر في الباطن عبر العالم الإسلامي، كما أن المصانع التي أنشئت لتحزم مدن مثل القاهرة والإسكندرية، كان عمالها الذين هتفوا له مطالبين ببقائه بعد هزيمة 1967.

امتلك عبد الناصر مشروعًا للتصنيع العسكري والمدني واستصلاح الأراضي، جعلها ملكًا للناس، وبالتالي كان أي تقدم علمي في مصر أو صناعي كان ينظر إليه بإعجاب، لذا تطلع العرب والعالم لمصر، فالمركز القومي للبحوث كان معملا للعلماء وجامعة القاهرة خرجت ألاف الخريجين العرب والمصريين الذين كان مستواهم العلمي يقارن بأقرانهم في جامعات مثل هارفارد وأكسفورد.

لكن قد يصم البعض إذا عرف أن عبد الناصر امتلك مشروعا إسلاميًا، بل انضم لحكمه جناح من جماعة الإخوان المسلمين، بدءًا من الشيخ أحمد حسن الباقوري إلى محمد البهي إلى محمد الغزالي، بل أنشأ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وطور جامعة الأزهر، وتوسعت في عهده البعثات التعليمية للأزهر، وأنشأت الدولة العديد من المساجد، فضلاً عن مجلة منبر الإسلام التي كانت تقرأ في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي.

هل كان عبد الناصر محبا لذاته؟
هذا السؤال لابد وأن يطرح الآن، نعم كان محبًا لذاته، لا يختلف أحد على نزاهته ونظافة يده ووطنيته، لكن رهن مصر من أجل أن يظل الزعيم، هذه الزعامة التي أدت إلى استنزاف مصر في حرب اليمن، وعدم المواءمة في الصراعات الدولية، والاندفاع دون حساب العواقب على نحو ما حدث في قضية غلق الممرات، فضلا عن عاطفته أحيانا التي جعلته يركن لعبد الحكيم عامر، فضلاً عن تفضيله أهل الثقة بحكم أنه شارك في انقلاب عسكري، لم يسمو عبد الناصر فوق منصب الرئاسة كما فعل نيلسون مانديلا حين ترك رئاسة جنوب أفريقيا، فقد كانت هيمنة رؤيته لذاته كزعيم طاغية فلم يتخيل أن لرئاسته نهاية، فكان الموت هو المحدد لنهاية حياته.

عبد الناصر.. القارئ.. الممثل.. الثائ
هنا يجب أن أبحر معك بعمق في هذه الشخصية عبر مراحل حياتها، ففي حي باكوس بالإسكندرية، في بيت صغير من بيوت الشارع الضيق انبعث صراخ قادم من بيت الشاب عبد الناصر حسين خليل "30 سنة" في 15 يناير عام 1918 رزقه الله بأكبر أبنائه "جمال"، عندما بلغ جمال الثالثة من عمره خرج إلى الوجود شقيقه عز العرب ومع ميلاده بدأت الأسرة تشد رحالها من الإسكندرية إلى عدة مدن في الوجه البحري وبعد انتقال الأسرة إلى أكثر من مكان، استقر المقام بالأب أخيرًا في الخطاطبة، فهذه هي طبيعة عمل موظف البريد أو السكة الحديد، ما إن يستقر في بيت حتى يأتيه "أمر نقل" إلى مكان أخر، فيضطر إلى البحث عن مسكن قريب من ذلك المكان الأخر الجديد. بعد انتقال الأسرة إلى أكثر من مكان، استقر المقام بالأب أخيرًا في الخطاطبة إحدى قري الدلتا التي تبعد عن القاهرة بنحو ثلاثين كيلو مترًا.

في الخطاطبة كان جمال قد بلغ السادسة من عمره وكان. وهناك تفتحت عينا جمال على نوع جديد من الحياة إنه يعيش هذه المرة في الريف، الخضرة تحيط به في كل مكان. كان الفقر هو أبرز معالم الحياة في القرية المصرية في ذلك الوقت. وكانت الحياة شاقة. وعلى غير بعيد توجد ضيعة "مبارك بك الجيار" - أول بك يراه جمال وكثيرًا ما كان يذهب إلى هناك في صحبة والده، وهناك دخل جمال لأول مرة المدرسة التي أنشئت لأبناء مستخدمي السكك الحديدية وفيها تعلم جمال القراءة والكتابة وحفظ كثيرًا من آيات القرآن الكريم. ولكن بعد سنتين كان عليه أن ينتقل إلى مدرسة أخري تتجاوز مرحلة الروضة.

وفي عام 1925 غادر جمال قرية الخطاطبة في طريقه إلى القاهرة. ولم يكن قد زارها من قبل وكان والده قد أرسله إلى عمه خليل الذي كان يعمل موظفًا بوزارة الأوقاف ليدخل المدرسة الابتدائية، فلم تكن في الخطاطبة مدارس ابتدائية. ودخل جمال مدرسة النحاسين الابتدائية الواقعة في شارع المعز لدين الله على امتداد الشارع المعروف باسم النحاسين، وفي مواجهة مجموعة من مساجد ومقابر سلاطين المماليك، ولا تبعد كثيرًا عن خان الخليلي ومسجد الحسين، وبقي بها ثلاث سنوات (1925- 1928). وفي هذا الحي الشعبي بدأ جمال يرى لونًا جديدًا عليه من الحياة مغايرًا تمامًا لما ألفه في الخطاطبة وفي مدن الوجه البحري التي عاش فيها. فبدت المدينة له شديدة الازدحام، وخاصة عندما كان يسير في طريقه إلى مدرسته الجديدة. ومنذ اليوم الأول لالتحاق جمال بمدرسة النحاسين الابتدائية طلب من صديقه محمود عبد اللطيف أن يكون مرشدًا له للحي الذي يعيش فيه وللأحياء المجاورة. وفي جولاته عرف طريقه إلي الجامع الأزهر وكان يقضي أوقاتًا طويلة يستذكر دروسه وولع بزيارة مسجد الحسين وبالتجول في سوق خان الخليلي.

في إحدى أمسيات شهر يوليو عام 1930 خاض جمال عبد الناصر أول تجربة سياسية له ولم يكن يبلغ الخامسة عشرة من عمره، وكان ذلك على إثر إلغاء إسماعيل صدقي لدستور عام 1923، وإصدار دستور عام 1930 بدلاً منه من ناحية، وبهدف إلغاء التحفظات الأربعة التي ضمت تصريح 28 فبراير، وجعلت الاستقلال الذي حصلت عليه مصر بمقتضاه مجرد حبر على ورق من ناحية أخرى. يومها هبت المظاهرات في كل مكان في أنحاء مصر. واشترك جمال لأول مرة في حياته في هذه المظاهرات بميدان المنشية بالإسكندرية، وكانت هذه المظاهرة هي بداية انشغاله بالسياسة.

ولم يكن يعرف تمامًا لماذا يتظاهر الناس وكان يكفي بالنسبة له أنه يتظاهر ضد الإنجليز، وتعرض لضربات رجال الشرطة... وقبض عليه وأودع بالسجن مع عشرات من المتظاهرين. وقضى ليلته ساهرًا وسط الطلبة والعمال المقبوض عليهم. وفي السجن اتجه جمال إلى شاب بجواره وسأله من أجل ماذا كنا نتظاهر؟ وعرف أن المظاهرة كانت احتجاجا على تحرش الإنجليز بمظاهرة للطلبة في المنصورة. وفي الصباح جاء جده إلى القسم وأخلي سبيله.

كان لهذا الحادث كبير الأثر في نظرة جمال للحياة والمجتمع وبداية تفكيره فيما حوله من أمور، واهتم بقراءة الصحف والمجلات ومتابعة الأخبار السياسية بشغف شديد. وفي هذه الفترة أيضًا شغل اهتمامه كل الأحزاب السياسية التي كان هدفها الأول أن ترد للشعب المصري حريته وقد انضم لمدة عامين بعد مظاهرة الإسكندرية إلى جماعة مصر الفتاة، ولكن تركها جمال بعد أن اكتشف أن دعواها العالية لا تحقق شيئًا واضحًا. ولما بدأ العام الدراسي الجديد ألحقه والده بمدرسة حلوان الثانوية، وهي مدرسة داخلية.

في عام 1934 كان جمال قد بلغ السادسة عشرة من عمره، ولكنه بدأ بقاماته المديدة ونظرته الجادة وكأنه ابن العشرين. في ذلك الوقت عاش مع أبيه في شارع خميس العدس بالخرنفش. وكان جمال قد عرف طريقه وبدأ يفهم أهمية الدور الذي يلعبه الطلبة بالنسبة للسياسة في مصر. وكان كثيرًا ما يدخل في مناقشات سياسية مع زملائه الطلبة. وبدأ في شرح موقف الأحزاب وكيف أنها تفتعل المعارك بقصد تفرقة كلمة الشعب وصرفه عن المطالبة بحقوقه الوطنية. وبدأ ناظر المدرسة ينصح الطالب جمال بالعدول عن الكلام في السياسة والتجمهر في فناء المدرسة. ولما ضرب جمال بكلام الناظر عرض الحائط أصدر تعليماته بعدم التجمع في الفناء. ولكن الطالب جمال نقل نشاطه إلى حديقة الأزبكية، فكان يلتقي سرًا بزملائه الطلبة ويناقش معهم الموقف السياسي علي ضوء نظرته الجديدة للأحزاب. وفي أحيان كثيرة كان يقابلهم في بيته بحارة خميس العدس ويشرح لهم الموقف. ووجد جمال من زملائه تفهمًا كبيرًا للموقف فقد كان قادرًا على إقناعهم وقيادتهم بيسر وسهولة من ناحية الهدف.

وكان سكن جمال مع أسرته قريبًا من دار الكتب المصرية، وفي غرفته كان جمال يطالع جميع أنواع الكتب، واتيحت له الفرصة ليطالع ما لم يكن متاحًا أن يطالعه في مكان أخر. وكانت اهتماماته السياسية واضحة للغاية، ويظهر ذلك من الكتب التي بدأ يقرأها والمسائل التي بدأ يهتم بها. وهو بذلك قام بعملية تثقيف ذاتي صارمة، ميزته عن رفاقه في المدرسة الثانوية.

انكب جمال عبد الناصر على دراسة كتب التاريخ والتراث، وخاصة تلك التي كانت مزيجًا من القصص والتاريخ، واهتم كثيرًا بدراسة تاريخ مصر منذ القرن التاسع عشر. وكان غارقًا في القراءة، يقرأ كل ما يصل إلى يده من كتب سياسية وأدبية. بالإضافة إلى بعض المؤلفات التي تناولت تاريخ العرب والإسلام وسيرة الرسول، من ذلك كتاب أحمد أمين عن "مجددي الإسلام"، كتاب "المدافعون عن الإسلام" الذي نشره وقدم له الزعيم الوطني مصطفي كامل، بهدف تذكير الأمة المصرية بمجدها الغابر، ووصف روعة الحضارة العربية، وأثرها في الغرب، فضلاً عن دعوة معاصريه إلى العمل على إحياء تراث الإسلام. ومن الشخصيات التي قرأ لها جمال أيضًا، الأمير شكيب رسلان الذي كتب أيضًا عن الشرق ومجده السالف. ولاشك أن كتب محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، التي أطلع عليها عبد الناصر في المرحلة الثانوية كان لها كبير الأثر علي تكوينه الفكري، ومن المؤلفات الهامة التي قرأها عبد الناصر كتاب "وطنيتي" لعلي الغاياتي الذي هاجر من مصر إلى "جنيف"، وأصدر جريدة "منبر الشرق"، ليدافع من خلالها عن حقوق شعوب الشرق، وكذلك كتاب "طبائع الاستبداد" للكاتب الوطني السوري عبد الرحمن الكواكبي، الذي شن فيه ثورة عارمة على استبداد الأتراك، وطغيانهم، ونهبهم لثروات الشعوب العربية.

وقرأ أيضا كتب أدبية في الشعر والرواية والتراجم. فقد كان معجبًا بأشعار أحمد شوقي وشعر الوطنيين المصريين أمثال حافظ إبراهيم. وقد قرأ باهتمام مؤلفات نجيب محفوظ التي تتعرض لتاريخ مصر ابتداء من عام 1910، وتعرض لكفاح طبقات الشعب ضد الاستعمار والحكومة والسرايا. وكتب محمود عباس العقاد وطه حسين ومؤلفاته "الأيام"، و"الشعر الجاهلي"، و"من حديث الشعر والنثر"، و"أحلام شهرزاد"، وأعجب كثيرًا بقصة "المعذبون في الأرض" لطه حسين وبعصاميته وكفاحه. وفي كتاب "الأيام"، احترم في موضوعه تلك الإرادة الحديدية الجبارة، التي غمر بها المؤلف بطل الأيام، وجعله يسخر من الطبيعة ويتحدى العقبات، ويكون كما أراد لنفسه أن يكون.

كما اهتم بسير عظماء التاريخ وزعماء العالم. فاهتم جمال عبد الناصر بمعرفة سير حياة الشخصيات التاريخية الكبيرة، ولاسيما تلك التي كان لها دور كبير في بناء وحدة ومجد أممهم، أمثال بسمارك، غاريبالدي، ومصطفي كمال أتاتورك الذين كافحوا من أجل الوحدة الألمانية، وثانيهم من أجل الوحدة الإيطالية، والثالث من أجل تكوين الأمة التركية الحديثة.

لم تقتصر علاقة عبد الناصر بالثقافة على الكتاب، مطبوعًا ومخطوطًا، ففي عام 1935 لعب الطالب جمال عبد الناصر دور "يوليوس قيصر" البطل في مسرحية شكسبير التي قدمها فريق التمثيل في الحفل السنوي لمدرسة النهضة الثانوية، ورأى المدرس المشرف على الفرقة التمثيلية وهو الأستاذ نجيب إبراهيم، أن يترك للطلبة اختيار الرواية اللائقة لتمثيلها في الحفلة. ومضى جمال يطالع تاريخ قادة الشعوب وعند قصة قيصر توقف طويلاً.

ويبدو أن الطالب جمال قد اضمر له إعجابًا شديدًا، لدرجة أنه قرر أن يضربها لنفسه وزملائه في مصاف المثل العليا لقادة الشعوب، وأسرع بها إلى مراقب الفرقة، وقدمها له في موجة طاغية من الحماس.. ووافق عليها المدرس، ووزع أدوار أشخاصها على الطلبة أعضاء الفرق، حتى إذا لم يبق غير دور "قيصر" أشار إلى الطالب الذي تأثر بشخصية القائد الروماني وقال له: "وأنت تمثل دور قيصر". وفي يوم السبت 19 يناير 1935، رفعت الستارة على مسرح "برنتانيا"، وقدمت مدرسة النهضة المصرية مسرحية "يوليوس قيصر" في حفلتها السنوية، تحت رعاية وزير المعارف وقتئذ أحمد نجيب الهلالي، وقام بدور "قيصر" جمال عبد الناصر. ومنذ ذلك اليوم وشخصية قيصر تستحوذ على مشاعر جمال. لقد أعجبه منه المواطن الحر المخلص، الذي آمن بالشعب المغلوب على أمره، فانضم إليه ضد الطبقة القوية الغاشمة الحاكمة ووقف ينتصر له.

وفي يوم 10 نوفمبر 1935 واجهت مصر تهديدًا جديدًا من الاستعمار الإنجليزي بعد أن ألغى الاحتلال دستور عام 1930 وعيَن توفيق نسيم رئيسًا للحكومة، ووعد الإنجليز بعودة دستور 1923 ثم تناسوا وعدهم. في ذلك الوقت، وفي 9 نوفمبر 1935 صرح "صموئيل هور" (وزير خارجية بريطانيا) بأن "بريطانيا ضد عودة دستور 1923"، بدعوى أن الشعب المصري لا يستحق تطبيق مثل هذا الدستور". استخلص عبد الناصر يومها "أن بريطانيا لن ترفع يدها أبدًا عن مصر". ولذلك كان تصريح هور فوق ما تحتمل أعصاب الشباب الوطني "الذي كان يتمسك بدستوره، لا لأنه الدستور الأمثل، ولكن لأنه كان وقتئذ الطريق إلى الحرية".

دفع جمال عبد الناصر في زملائه بمدرسة النهضة بجنين الثورة.. والإصرار على المبدأ "الحرية والاستقلال". كان لهذه التصريحات صدى خطير في مصر وعندما جاء يوم 12 نوفمبر 1935، واجتمع الطلبة في فناء المدرسة حسب الخطة التي وضعها جمال في الساعة السابعة صباحًا، وكانت المدرسة داخلية لأغلب الطلبة يومها، ليجدوا جمال عبد الناصر يحمل علم مصر الأخضر بساعديه ويهتف: "تحيا مصر.. يسقط الاستعمار".

والتقت مظاهرات المدارس الثانوية بزعامة جمال، بمظاهرات طلبة الجامعة بزعامة الأستاذ عبد العزيز الشوربجي عند كوبري الملك الصالح حيث فاجأهم الرصاص من الكونستبلات الإنجليز وسقط بعض الطلبة شهداء منهم وأصيب 99 طالبًا بجراح، كما اعتقل مئات منهم. بعد ساعات كان جمال عبد الناصر يعقد اجتماعًا للطلبة في ميدان الإسماعيلية – التحرير حاليًا- حيث طلب من عبد العزيز الشوربجي – مندوب اللجنة التنفيذية لطلبة الجامعة – أن يصعد على عامود إنارة ليخطب في جماهير الطلبة والأهالي الذين تجمعوا دون أن يخافوا نار الإنجليز ورصاصهم حيث كانت ثكناتهم قريبة منهم علي شاطئ النيل. ملأت قوات البوليس والإنجليز الميدان وانقضوا على الطلبة بالعصي والرصاص.. لكن عبد الناصر لم يكف عن الهتاف: "تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر". وسرعان ما تجمع الطلبة من جديد مع الأهالي ورددوا الهتاف في صوت راعد هز جنبات الميدان وأزعج سلطات الاحتلال في ثكنات قصر النيل وتوالي هتاف الطالب جمال عبد الناصر بصوت مدو. فأخذت قوات البوليس بروعة هتافه وعظمة إصراره وأعجبتهم شجاعته في مواجهتهم فانضموا للمظاهرة.. وارتفعت أصوات عساكر مصر من البوليس تردد الهتاف مع جمال: "تحيا مصر".

في 13 نوفمبر 1935، تظاهر طلاب جامعة القاهرة وتلاميذ المدارس وساروا من الجيزة إلى القاهرة وهم يهتفون "تسقط إنجلترا"، "الموت لصموئيل هور"، "يسقط نسيم باشا"، "نريد دستور 1923"، واصطدموا بالبوليس وسقط ضحايا وجرح كثيرون من الجانبين، وشهدت ساعات الظهيرة من هذا اليوم مشهدًا داميًا.. فتح كوبري عباس وسقط عشرات من طلبة الجامعة وطلبة المدارس في النيل وغرقوا. ورصاص الإنجليز يحصد من بقوا على الشاطئين. لكن جمال لم يستمع إلى تحذيرات حسن النشار أو أي أحد من زملائه. واستأجر مركبًا نيليًا وانطلق مع بعض رفاقه ليعبر إلى طلبة الجامعة يشاركهم ثورتهم لكن رصاص الإنجليز ظل يحصد الطلبة في المركب وسقط يومها الشهيد محمد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة، وسقط الطالب محمد عبد الحكم الجراحي - الطالب بكلية الآداب- وشيع في جنازة شعبية كبطل، وحضرها النحاس باشا وباقي الزعماء السياسيين. وانتهي اليوم الدامي بجمال عبد الناصر مع الزميل حسن النشار يتجهان إلي بيت صديق لهما في المنيل وعندما توقف رصاص الإنجليز عن حصد أرواح شباب مصر كان جمال عبد الناصر في طريقه إلى مسكنه في حارة خميس العدس يعد الطعام من قروشه القليلة ويحمله ليلا إلى رفاقه الذين سجنهم البوليس في قسم الموسكي.

تنتهي ليلة 13 نوفمبر 1935 بمشهد قاس كان جمال عبد الناصر بعد أن حمل الطعام لرفاقه في القسم أسرع ليحضر اجتماعًا للطلبة في بيت سعد زغلول بمناسبة عيد الجهاد وهناك حدث صدام أخر برجال البوليس. لكن أحد الضباط الإنجليز لاحظ جمال ظل يتبعه وعرف أن هذا الشاب الطويل، الصلب.. هو محرك الطلبة الأساسي وأنه "سر" كل متاعب ومشاكل الإنجليز فأطلق عليه رصاصه قصد بها رأسه ليتخلص منه لكن شاء القدر أن تمر الرصاصة في فروة رأس جمال وتفجر دمه غزيرًا. وكان الجرح من العمق بأن ترك ندبًا في جبهة جمال عبد الناصر لبقية حياته، كان طوله ثلاث بوصات تقريبًا وعلى يسار جبهته قليلاً وأسفل شعر الرأس مباشرة وكان يتخذ شكل الهلال، وأسرع الطلبة يحملون جمال وكان أقرب مكان هو مبنى دار صحيفة الجهاد التي تصادف وقوع الحادث بجوارها، وفي مكتب صاحب الجريدة ضمد رجال الإسعاف جرح جمال وجرح زملائه الطلبة. وخرجت الجهاد في اليوم التالي 14 نوفمبر 1935 تحمل في صدرها هذا النبأ "التصادم في السرادق". وحملت أسماء الجرحى ومن بينهم اسم الطالب جمال عبد الناصر.

في المساء صدر قرار وزاري بتعطيل الدراسة في جميع المدارس حتى يوم 10 ديسمبر 1935. فثارت الهيئات واحتجت الصحف على موقف الحكومة من الدستور – الذي هو مجرد قنطرة إلى حرية الشعب يومذاك – ووجد الإنجليز أن الأمة قد صارت كتلة واحدة. فأعلن السير كوين بويد أنه ليس لدي بريطانيا ما يمنع من عودة دستور سنة 1923. وبالفعل صدر في 12 ديسمبر 1935 مرسوم بعودة الدستور وانتصر جمال عبد الناصر لشعبه وبشعبه في هذه المعركة ضد قوات الاحتلال. ولكنه كان يعرف أن هذا كله مجرد خطوة على طريق الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية. لذلك تجده في أول يوم لاستئناف الدراسة، يصدر أول منشور ثوري في حياته بصفته رئيس اللجنة التنفيذية لطلبة المدارس الثانوية بالقرارات التالية:

1-الاستمرار في الكفاح حتى تحصل مصر على ثمن الدماء التي أسيلت.

2-واجب كل فرد هو العمل عملا متواصلا لا هوادة فيه، حتى تظفر مصر بحقوقها كاملة غير منقوصة.

كان جمال قد ازداد عزمًا وقوة على قيادة شباب مصر لإيقاظ مصر وعندئذ أمر الإنجليز ناظر المدرسة الأستاذ زكي بفصل جمال عبد الناصر ومنعه من دخول المدرسة ليقضوا على إضرابات الطلبة نهائيًا. ووقع زملاء جمال التماسًا وقدموه إلى ناظر المدرسة ليسمح له بالدخول ولكن الناظر رفض الالتماس فأعلن الطلبة الإضراب من أجل جمال، وحاول ناظر المدرسة أن يحتج بأن جمال ليس له حق دخول امتحان البكالوريا لأن نسبة حضوره كانت ضئيلة ولم يحضر في العام الدراسي سوي 45 يومًا فقط. لكن الطلبة تمسكوا برأيهم وعلى الفور قام الطلبة بحرق العنابر الداخلية بالمدرسة وهددوا بنسف المدرسة جميعها إذا تدخل البوليس. وطالبوا برجوع الزميل البطل جمال عبد الناصر. فاستسلم الناظر لهم وبالفعل ذهب سكرتير المدرسة إلى منزل جمال وأعاد جمال مرة أخرى من بيته في موكب إلى المدرسة ردًا لاعتباره. وتحداه الناظر في ذلك الوقت أن يحصل على البكالوريا ظنًا منه أن جمال لم يستعد للامتحان ولكن الذي حدث أنه بالرغم من أن نسبة النجاح في امتحان البكالوريا في ذلك العام كانت ضعيفة للغاية نظرًا للوقت الطويل الذي يستغرقها النشاط السياسي في ذلك العام غير أن جمال عبد الناصر كان ضمن الذين نجحوا في شعبة الآداب في عام 1936. واستمر جمال في طريق الإعداد للثورة وتفرق زملاؤه في لجنة الكلية كل منهم ذهب إلى كلية من كليات الجامعة وظلت الاتصالات بينهم في لقاءات أو خطابات.

وتندلع ثورة 23 يوليو وتنجح الثورة في تحقيق أهدافها وينتصر جمال عبد الناصر في معركة الأحلاف، وانتصر في معركة العروبة، وانتصر في معركة تسليح مصر، وغيرها.

حقا إن الحديث عن شخصية جمال سيعود بنا إلى فطرة شعب مصر ومقوماته وخصائصه في القرية والحقل، كان في المصنع والمدينة هذه المقومات وتلك الخصائص التي هزمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وردت عدوانهم، وهم الذين كانت لديهم أحدث أسلحة الحرب والخراب والدمار.

إعلان