إعلان

بين التشرذم والإحساس بالنقص..!

الكاتب محمد أحمد فؤاد

بين التشرذم والإحساس بالنقص..!

09:18 ص السبت 25 يوليه 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد أحمد فؤاد:

يمكن تبسيط واقعنا الحالي في كلمات ثلاث لا غير "طغيان جنون التعصب".. إعصار أعمى يضرب كافة الاتجاهات ويدهس ما يعترض طريقه بلا تمييز.. هل أصبح لزاماً علينا أن نجتر ثماره المُرة دون إدراك لحجم الخطورة؟ أو دون اعتناء بمصائر أجيال معاصرة أرى معظمها قد زهد في فضيلة الانتماء للوطن والأرض، أو تراهم فقدوا القدرة على الدهشة من فرط ما يحيطهم من واقع اللا منطق..

إذا ما سَلَّمنا بأن للتعصب أبعاد محددة، فأخطرها في ظني سيكون ما هو عِرقي أو ديني، وقضيتنا هنا تتعلق بكلاهما.. فأغلب ما يحيطنا من كوارث مجتمعية اقترن إما بالعصبية القبلية، أو بشعارات دينية مغلوطة ومُضللة مستقاه من مصادر بشرية الصنع، وأغلبها في اعتقادي مطعون على صحة مصادره وأهدافه.. فمثلاً سنجد أن أصل التعصب في اليهودية تلمودي، وفي المسيحية كاثوليكي، وفي الإسلام سَلَفي.. والعلة تبدو في أننا كبشر نرتضي في أغلب الظن باستدعاء السلبيات ونقاط الخلاف الفقهية ونهمل الإيجابيات أو الصفات المشتركة، وربما لهذا كان ما انتهينا إليه الأن من حال التنافر المذهبي ورفض الأخر..

تتقدم العلوم الطبيعية والتكنولوجيا بصورة مذهلة، ومعها تزداد معرفة الإنسان بعلل الأشياء وكيفية حدوثها، وكذا قناعاته عقائدياً بأنها تحدث من أجله لا بفضله، لهذا حدث تراجع ملحوظ في أسهم رجال الدين، ممن اعتبروا أنفسهم يوماً وكلاء لله على الأرض، يوزعون الرحمة والرزق وصكوك الغفران على العباد مقابل ما تيسر من مال وعطايا وقرابين، فما إن أصبح لزاماً عليهم الاعتراف بكونهم شخوص اعتيادية كباقي البشر حتى انتابهم إحساس بالدونية والنقص تحول تدريجياً إلى خوف من المصير أو ربما غيرة على المنصب والمكانة.. ونتيجة لنضج العقل البشري، ومعرفته بمصادر المنفعة وأسباب الخسائر، ثم إدراكه تمام الإدراك أن الكهنة المقدسين أو الرهبان أو الشيوخ ليس لهم أية علاقة مباشرة بخطاياه أو بطهارته من الدنس، فكان أنه أيقن أن الأمر كله في النهاية متعلق بعنايته الشخصية بالأمور الحياتية سواء كان هذا يصب في خانة التفاني أو التقصير..

قل وندر، أو ربما انقرض من يذهب بمفرده لرجل الدين ليصالحه مع نفسه، أو ليلقنه صلوات الاستغفار، فلم يعد العقل البشري قادراً على استيعاب هذا المنطق المغلوط، ولا هو يحتمل فكرة الوساطة الكهنوتية مع الرب في أي من المعتقدات.. لهذا جاء انتصار ثورة العقل أمام مبادئ السمع والطاعة، وحدث هذا الشذور الذي تفرقت على أثره الشعوب شيعاً وطوائف.. بل أكثر من ذلك، فقد غامر البعض وتجاوز مجرد فكرة التدين إلى مساحة اللا دين، فاختصروا بذلك أي عناء فكري قد يبذلوه في سبيل الوصول للحقيقة المطلقة، وهنا يتضح مدى فداحة الخسائر التي ألحقها مروجي المناهج المتشددة بالأديان والمعتقدات في نهاية المطاف..! وبالطبع للعناد والصلف رجال في كافة المراحل والعصور، وقد انتهى هؤلاء إلى حتمية تعديل مناهجهم لتتناسب مع حجم الزيادة المطردة في أعداد السكان، واتساع الرقعة المأهولة من الأرض.. فمجابهة قوة الفكر التنويري اصبحت حتمية ليس فقط لاسترداد المكانة، ولكن لأن من يسعون وراءه نجحوا في فضح مساحات الجهل التي طالما استغلها هؤلاء لفرض سيطرة دنيوية على الجهلاء وأصحاب العقول المظلمة.. وربما كان هذا هو الدافع وراء ظهور إرساليات التبشير وانتشار فكر الجماعات المغلقة والتنظيمات الأصولية ليتوائم وطبيعة الواقع الحالي.. وتحضرني هنا نظرية جوستاف لوبون في كتابه "روح الاجتماع"، وهي أن الجماعات أسلس قياداً من الأفراد.. فقيادة شاه واحدة من قطيع عمل شاق يعي به أشداء الرجال، بينما سوق قطيع كبير منها قد لا يحتاج إلى أكثر من ثلاثة أطفال صغار..

ما تقدم هو مجرد تبسيط لبعض دوافع التعصب الأعمى الذي يعصف بالمجتمعات حالياً ويضرب في العالم بأسره، وما يخصنا من الأمر في الشأن المصري هو هذا الصراع الدائر بين التيارات الفكرية المختلفة لخدمة هدف واحد هو الاستحواذ على السلطة، دون النظر إلى أهمية وحتمية تحويل مسار الشعب من الانقياد الأعمى والتبعية المفرطة، إلى تأهيله لتولي دفة القيادة والتصحيح، وأعني هنا الالتفاف كأفراد وجماعات حول هدف أكثر أهمية هو إعادة ترسيم دعائم الدولة على أسس ومبادئ سليمة بعيداً عن الهوس الديني والنزعات الانفصالية والفكر المتطرف أو التبعية السياسية العمياء..

المصريون سئموا عقد المقارنات بينهم وبين الشعوب الأخرى بفعل إيمانهم العميق بطبيعتهم المتفردة، وهم لم يشعروا بالافتقار للإرادة إلا بعد مزاحمة الأفكار الأجنبية المستحدثة للقيم المجتمعية الراسخة لديهم، حتى أنهم تخلوا عنها ولفظوها في الكثير من الأحيان لصالح توجهات ذات ملامح استعمارية واضحة، وهذا بالضبط ما أظنه قد حدث مؤخراً مع اللغة والأديان، فاللغة العربية شوهت عمداً، ونسخ الأديان تم تفريغها من مضامينها الروحانية لصالح أمرين متضادين هما التشدد الفقهي من جهة، والتحرر من القيود الاجتماعية من جهة أخرى.. وهذا نسق لا أظنه يتفق أبداً مع ما لدى مجتمعاتنا من خصوصية في العلاقة الوثيقة بين العواطف الدينية وغريزة حفظ الذات..

وهنا أجد أنه أصبح لزاماً على القوى الشعبية المختلفة بما فيها قوى المعارضة التخلي عن بواطن النقص داخلها، والتحلي بالموضوعية لا بالاستقواء، وكذا الانتباه للأخطار المحيطة بالهوية المصرية والعمل على دحضها وليس استغلالها في الصراعات الأيديولوجية داخلياً، ثم بعد ذلك يأتي التركيز على دعم الدولة عملياً ضد تلك الأخطار بالتوحد على الهدف والتصدي لها لدى المنبع، وفي هذا يتحتم علينا التروي في ردود الأفعال، والاعتماد على النقد البناء ورصد الأخطاء بهدف تصحيحها وليس لمجرد التشهير سعياً وراء الظهور، وبالمقابل على من هم في سُدة الحكم الالتزام بالتأكيد على ركائز ومبادئ المساواة والشفافية، والوضوح في التوجه السياسي واحترام الحريات، هذا بالطبع دون تقصير أو إخلال بخطط التنمية المستدامة، والمضي قُدماً في التصدي لكل أنماط الاستعمار التي تتحرك وراء المصالح..

إن تكوين ظهير شعبي قوي ومؤهل هو مسؤولية جماعية وفردية في آن واحد، هذا لكونه خط الدفاع الأول الداعم لأي مجتمع ناجح، ولهذا كان استيعاب التوجهات المعارضة بكافة أشكالها هو المحك الأخطر لأي نظام حكم، وفي هذا الصدد سيصبح اعتدال الميزان أمر واقع فقط عند اسقاط الاستثناءات والبدائل المؤقتة كافة، والاحتكام الكامل للقانون ولمواد الدستور..!

إعلان