إعلان

"ديستوفيسكى".. رجلٌ انتصر على الحياة بسِن القلم (الحلقة الثانية)

03:53 م الخميس 24 مارس 2016

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-علياء رفعت:

"أخي يا صديقي العزيز! لقد حُسم مصيري! لقد أدانوني بأربع سنوات من الاشغال الشاقة في سجن سيبيريا. وبعد الخروج من السجن سوف اصبح مجندا محروما من الحقوق المدنية بما فيها حق الكتابة لمدة ست سنوات.. سوف اروي لك القصة من أولها. لقد نقلونا الى الساحة العامة لسجن القلعة. وهناك قرأوا علينا حكم الاعدام. ثم أمرونا بتقبيل الصليب وكسروا سيوفنا فوق رؤوسنا باعتبار اننا انتهينا. وبعدئذ اغتسلت غسلة الموتى، ثم ألبسونا الاكفان يا أخي. وصفّونا ثلاثة، ثلاثة على الجدار تمهيدا لرمينا بالرصاص. كان ترتيبي السادس، وكنت انتمي الى الوجبة الثانية التي سينفذ فيها حكم الاعدام. ولم تبق لي الا دقيقة واحدة لكي أعيش. في تلك اللحظة فكرت فيك يا اخي، في اللحظة القصوى التي لا تتجاوز الثواني كنت انت وحدك في خيالي. وعندئذ عرفت الى أي مدى أحبك يا أخي الحبيب.

ولكن في آخر ثانية قبيل التنفيذ دُقت الطبول وأعلنوا عن العفو الملكي الذي وهبنا الحياة من جديد!.. هل تستطيع ان تتصور تلك اللحظة؟ من يستطيع ان يتصورها؟ ولكن على الرغم من كل ما حصل لي فلم أفقد الشجاعة ولا الأمل. الحياة في كل مكان هي الحياة. الحياة موجودة في داخلنا وليس في العالم الخارجي."

من داخل زنزانته، في الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1849 خَط ديستوفيسكي هذة الكلمات في خطابٍ قام بإرساله إلى أخيه الأكبر ميخائيل -الذي جمعته به علاقة صداقة في المقام الأول قبل صِلة الدم-، وصف له فيه بدقة قسوة اللحظات التي عايشها وهو على مشارف تنفيذ حكم الإعدام، وكيف حل العفو الملكي على نفوس من كان سينفذ الحكم بحقهم بردًا وسلامًا، برغم إستبدال هذة العقوبة بالسجن.

1

بين أربعة جدران، في ظُلمة حالكة، برفقة القتلة والمجرمين، ووقتٍ موزع بين الأعمال الشاقة، وتأمل أحوال المُحيطين؛ قضى ديستوفيسكي سنوات السجن في سيبيريا. عتمة السجن ومعايشة المجرمين أضاءت في روحه نِقاط نور حولت شخصيته تمامًا فجعلته يرى من العالم ما لم يكن يعرفه من قبل ويدرك أن البشر ليسوا أشرار بالفطرة، ولكنهم يتجهون إلى ارتكاب الجرائم والحماقات بسبب العديد من الدوافع التي تصب -على اختلافها- في مجرى الانتقام من الظلم والانتصار للنفس أحيانًا، وبرغم ذلك يبقى في نفس كُل منهم قدرٌ لا بأس به من الطيبة التي لم تسحقها قسوة هذه الحياة بعد.

"إن دوستويفسكي هو أول إنسان أعطانا فكرة عن الناس الذين هم نحن" هكذا وصفه الروائي النمساوي ستيفان تسفايغ، فتجربة السجن التي أخذت من روحه أضافت لأدبه الإبداعات التي مازالت باقية حتي الآن ليتناقلها كُل مُحبي الأدب من مشارق الأرض إلى مغاربها، وربما كانت روايته "رسائل من بيت الموتى" هى الأبرز فى تشريح النفس البشرية، توثيق مشاعر الألم، الظلم، والقهر الذي اجتاحه فى فترة سَجنه، فهذة الرواية ارهقت ديستوفيسكي كثيرًا فى كتابتها التي تمت على مراحل مُتفرقة نظرًا لحالته النفسية المضطربة ونوبات الصرع التي كانت تداهمه من وقتٍ لآخر، فاستحقت بجدارة لقب "رواية روسيا الحزينة".

2

في فتره سَجنه لم يكن ديستوفيسكي يبالي بأي شيء سوى الهواجس التي كانت تجتاحه من حينٍ إلى آخر في نوبات اكتئابه لتوسوس له بأنه لن يعود قادرًا على الإنتاج الأدبي مرة أخرى، لن يعود إلى سابق عهده، فحياته الأدبية قد انتهت بين جدران السجن، ربما كان ذلك الخوف هو ما دفعه للكتابة لأخيه مرة أخرى ليستمد منه القوة على مواجهة أسوأ كوابيسه تلك.

"هل من المعقول الا أكتب شيئا بعد الآن؟ هل يمكن ان تنتهي حياتي الأدبية وانا لا أزال في بداية البدايات؟ آه يا أخي! كم من الصور المعاشة والافكار سوف تموت في رأسي، سوف تتبخر الى غير رجعة اذا ما حصل ذلك. نعم اني سوف أموت اذا ما مُنعت من الكتابة. اكتب لي يا أخي كثيرا. اكتب حتى عن الاشياء التافهة، وبخاصة الاشياء التافهة، العادية، اليومية. فأنا سأكون في المنفى بعيدا عن الحياة. مفصولا عن الحياة. ولكن بحق السماء لا تبك. لا تبك عليّ يا أخي لا تبك.. اعلم اني لم افقد الشجاعة ولم يتخل عني الأمل حتى في أحلك اللحظات قبل لحظة الاعدام بقليل كنت أعلم ان خبر اعدامي سوف يقتلك في أرضك.. ولكن الآن تجاوزت هذه النقطة، ولم يعد هناك من خوف. اني أولد من جديد. لا يعرف معنى الحياة الا من فقدها أو أوشك على فقدانها. ما ان أعود الى الماضي حتى افكر بكل الوقت الضائع سدى. افكر بلحظات البطالة والعطالة والضلالات والفرص التي راحت.. كم اخطأت بحق نفسي وروحي.. عندما افكر بكل ذلك اشعر بنزيف دام في قلبي. الحياة عطية، الحياة هدية ثمينة جدا ولا نعرف قيمتها الا عندما نفقدها أو تصبح مهددة فعلا. الحياة سعادة. في كل دقيقة يوجد قرن من السعادات.. آه من طيش الشباب! والآن اذ اغير حياتي اشعر وكأني أولد بصيغة أخرى."

3

بعد انقضاء فترة السجن، تم إطلاق سراح ديستوفيسكي عام 1854، ولكنه كان مُجبرًا على الخدمة بالجيش الروسي - تابعًا لإحدى الحاميات في سيبيريا- لمدة خمس سنوات، وقتها عاد للكتابة لأخيه مرة أخرى بعد انقطاع ليخبره بما فعلت به التجربة، بمكتسباتها، بشوقه له، وحتمية لقائهما المرتقب.

"سوف نلتقي يا اخي قريبا. أشعر بأن روحي شفافة ورائقة في هذه اللحظة. المستقبل لي المستقبل كله لي، وأرى منذ الآن ما سأفعله، كما لو انه تحقق الآن أمامي. أنا راض عن حياتي. ليس هناك الا شيء واحد أخشاه: البشر والاعتباط.. ولكن البشر في كل مكان هم البشر. حتى في سجن الاشغال الشاقة وجدت بشرا بين المجرمين والقتلة واللصوص. نعم بعد اربع سنوات من العيش معهم اكتشفت ان بصيص الانسانية لم يمت في داخلهم. وقد احبوني وبكوا عندما افترقنا الى غير رجعة. لقد تعرفت على روسيا في السجن. وبالاخص على الشعب الروسي. وأزعم اني اعرفهما الآن أكثر من أي شخص آخر."

هبوط.. فصعود:

أنهى ديستوفيسكي مدة خدمته العسكرية، ثم عاد بعدها إلى بطرسبرغ عام 1859 ليستكمل مشروعه الأدبي من جديد مؤسسًا اثنين من الإصدارات الدورية حيث كان ينشر مقالاته - التي عبر فيها عن قيم المجتمع الروسي وعاداته التي أعاد اكتشافها من جديد بعد تجربة السجن- وبعض من القصص القصيرة قبل أن يعود لكتابة الرواية مرة أخري.

ولأن المصائب لا تأتي فُرادى فقد توالت على ديستوفيسكي في تلك الفترة؛ بدأت بوفاة زوجته الأولى " ماريا إيسايفا"، ثم أخيه، فاعتراه اليأس وأدمن على المقامرة وحاصرته الديون من كل إتجاه، تلك التجربة التى ستلهمه ليبدع واحدة من أروع روايته فيما بعد "المقامر".

4

ومن القاع إلى القمة، انطلق ديستوفيسكي بمنتهى السرعة، دأب على سكب أحزانه فوق الورق ليتوالى انتاجه الأدبي فأصدر ثاني رواياته "ملاحظات من تحت الأرض" والتي اعتبرت فور صدورها "أول رواية فى الفلسفة الوجودية". كانت الأحزان والكآبات من أقوى الدوافع المُحركة لديستوفيسكي، تثير فيه نزعة الأديب باقتدار، فينعزل، ويكتب، ثم يخرج على العالم فى كل مرة بإنتاج أدبي جديد مُثير للدهشة، ففى عام 1866 أى بعد روايته الثانية بعامين نشر ديستوفيسكي رائعته الخالدة "الجريمة والعقاب" التي استقبلها جميع النقاد بحفاوة بالغة، ويرجع السبب فى ذلك إلى قدرة ديستوفيسكي على تصويرالصراع الداخلي للنفس البشرية بمنتهى الدقة من خلال بطل الرواية الذي يقوم بجريمة القتل ليثبت قدرته على فِعل أى شيىء من أجل ما يراه الصالح العام، ولكنه لا يستطيع أن يفلت من براثن ضميره الذي يصور له أن الخلاص يكمن في المعاناة والاعتراف مما دفعه إلى التفكير بالانتحار للحصول على الراحة الأبدية.

5

فيديو قد يعجبك: