إعلان

يا صاحبي السجن".. حكاية "العتوم" بعد 100 يوم سجن

02:39 م الخميس 11 فبراير 2016

ايمن العتوم

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت – يسرا سلامة:

السجن عالم قائم بذاته، الدقيقة خلف القضبان بألف مما خارجها. "يا صاحبي السجن" رواية أردنية تحكي قصة 100 يوم في غيابات السجون، لكاتبها أيمن العتوم، الذي هرب من وحشة السجن بالقراءة والشعر، ترك الحياة خارج بابه مُرغما، وأصبح إيقاع الحياة بطيئا، اشتاق إلى قسمات وجوه عائلته، وتحمّل معاملة الشرطة للمسجونين كدواب.

عن تجربة ذاتية، تدور الرواية. أطاحت بـ"العتوم" تهمة "إطالة اللسان" كما يقول بين أسطر الرواية التي تعد باكورة انتاجه الأدبي، إذ ظهرت إلى النور عام 2012، يحكي فيها بلغة رشيقة ما عاشه على البرش في ظلمات السجن بلغة قرآنية، يحكي عن فترة سجنه من العام 1996 إلى 1997، متقلبا بين السرد الأدبي، والوصف المنثور عن الوحدة ووحشة الاحتجاز، وليس بغافل لأبيات شعرية عديدة عن تلك الحالة.

حتى قرابة منتصف الرواية الصادرة عن الدار العربية للدراسات والنشر، لا تعرف كقارئ اسم الراوي "أيمن"، الذي يتحدث بصيغة المتكلم منذ البداية. للسجون وحشة، تظهر منذ الأسطر الأولى، ولقيمة الأشياء صورة مختلفة من الوقت الذي يصبح سنين مديدة في ذهن شاعر أطاحت به السياسة لغياهب السجون.

قبل الحديث عن السجن، سطر "العتوم" حوار خيالي بينه وبين الوطن: "أيها الوطن؛ فاتحة البدء: مساء الخير! اول مرة أعرفك على هذا النحو، أتصدق؟ إنها المرة الأولى التي أشعر فيها كم أنا أحبك، وكم أنت مخبوء في. أيها الطائر الذي يستيقظ من جديد: ها أنذا أهيئ لك إعماقي لتتغلغل فيها، لقد جئت على قدر يا وطني!".

في قرابة 346 صفحة، تدور الرواية، ألُقى القبض علي بطلها عقب ندوة شعرية انتقد فيها الملك الأردني، دفع به إلى أروقة السجن، ظل فترة لا يعرف بالتحديد ما هى تهمته، وما الذنب الذي "لم يقترفه" كما يقول ليدفع إلى به إلى هذا المعتقل.

الكاتب -الحاصل على بكالوريوس الهندسة واللغة العربية- مولع بالتفاصيل، غرام ربما تعلمه مع أيام السجن، يرسم لك صور الاشياء وكأنها أمامك؛ التفتيش الدقيق من رجال الشرطة في كل سنتيمتر بمنزله، لم يتركوا ورقة مطبوعة إلا وكانت تحت طائلة التفتيش، حتى أن أحدهم أشاد بأشعاره، رغم إنه عقب هذا المديح ألقى القبض عليه، لم يكن يتوقع أن الأمر سيطول، طمأن والدته "ساعتين وسأعود يا حجة"، غير أن الأقدار تمضي على غير اختيار.

ظلمة الممرات التي ولج فيها، ضاقت به الزنازين، قتلته الوحدة واستبدت به عتمة المكان "السجن جنات ونار، وأنا المغامر والغمار"، تهكم عليه الضابط ليتلو تلك القصيدة، لكنها كانت حاضرة بفؤاده، ففي عتمة الزنازين يصبح القلم نادر الوجود، والورق عزيز، اشتاق "العتوم" كثيرا للإمساك بقلم بين يديه، تماما كما يشتاق للحرية، حتى إنه حسد الشاويش بالسجن على قلمه، خالجته بالسجن كل العواطف؛ الندم، الخوف، الفخر، القلق، الترقب، عدم التصديق، حاول بالسجن إعادة تعريف نفسه "أنا معتقل سياسي، في قسم المخابرات، في زنزانة انفرادية"، وشاعر يحب وطنه حبا أوصله للسجن.

وليل كموج البحر أرخى سدوله

علي بأنواع الهموم ليبتلي

بطانية واحدة أصبحت غطاءه وفراشه، في سجن الجويدة الأردني، عرف اسمه فيما بعد، نهشت جسده وخزات البرد، دار لأيام بين مدمني المخدرات والقتلة، وبين أصحاب يرمز إليهم عنوان الرواية. اختلاف في أسباب الاعتقال، جمعتهم بالزنازين، أصبحت أشياء قليلة جدا حلما له، مثل المرآة، يقول "لم يكن أمامنا غير الأمل نافذة على الشمس تشق جيوب الظلام، تمتلكني رغبة جامحة في النظر إلى المرآة لثانية واحدة.. لأراني.. لأرى هذا الساكن في، ماذا تبقى منه وماذا تبقى له".

ومن سجن الجويدة بالزنزانة 95، حصل في البداية على الرقم 67، اعتبره فأل سيئ لارتباطه بالنكسة العربية، حتى تبدلت الأرقام فيها بعد لأرقام عديدة، وأصبح المسؤولون بالسجن يتعاملون معه كرقم لا بشر، صار الاستحمام رفاهية، حتى أنه قال عن أول مرة استحمام "تسرب الماء إلى جسمي فملأني بالنشوة"، طائر على شباك السجن كان يحيي به الحنين، يسرد الشعر في نفسه، يقول إنه أصبح ينزف القصائد نزفا، تفعل به الذكرى من الأسى ما لم تفعله السكين في الجسد من الألم.

"ستكون معجزة العصر لو أن الشعوب العربية استعادت انسانيتها.. أن تثور"، "أي حلم والأحلام أضغاث؟.. أن نرى وطنا حرا"، "الشعوب العربية تربت على مفاهيم الخنوع".. بكثير من تلك التعبيرات وغيرها، لم تكن "يا صاحبي السجن" رواية ذاتية فحسب، لكن الكاتب كان يتخذ من حالته وزملاءه من المعتقلين السياسيين وضعا لانتقاد الحال العربي كله، السلطة التي تنكل بمعارضيها، وتزج بهم في السجون.

بصحبة سبعة أصدقاء، مرت الفترة الأولى من سجن "العتوم"، كان يتفحص الوجوه "إن للوجوه حكايات لا يستكنهها إلا المتأملون.. إن لتفاصيل الوجه حكايا تختبئ لأزمنة لا يعرفها إلا المهووسون، قد تمتد لشهور أو لسنين، أو ربما لقرون"، تلك الصحبة كانت كما يروي كأصحاب الكهف "كنا لنبدأ حكاية بينة لا يتنازع أمرها بيننا أحد".

الأسئلة لا ترحم فراغ "أيمن" في السجن، للوحدة مرارة تؤثر في مضاجعه، الشاعر الأردني قوي الجسد، أحاله السجن إلى هزيل في الجسد والروح، تمسك أكبر بمواقفه، لم ينكر تهمة الشعر أمام القاضي حين تمت المحاكمة، التي كانت سرابا، الحكم والقضاة رآهم أشباح، لم يصدق أن للكلمة عقاب بين عواميد حديدية تمنعه من التحليق، يصف حبسه "إن السجن حياة داخل حياة، مدينة داخل مدينة، عالم لا يشبه أي عالم آخر".

وفقا لقانون العقوبات الأردني، ولأسباب مخففة تقديرية "ولإعطائه فرصة لإصلاح نفسه"، أصبحت العقوبة ثمانية أشهر مع مصادرة وقائع الأمسية الشعرية، يذكر المعتوم "لم أدر ماذا أفعل بعد أن تلقيت هذا الحكم، وحرت بين أن أضحك أو أبكي، ظللت مكاني واقفا فاقدا للشعور، غير أنني هممت أن أقف شاكرا للمحكم التي أعطتني فرصة لإصلاح نفسي، وتقويم إعوجاجها، إنه اعوجاج بات مقلقا للدولة، لكنه ليس ذنبي بل ذنب القصائد التي تغريني بهذا الاعوجاج، وتفتح شهيتي على أن أفسد نفسي، فشكرا للدولة التي تحرص على مواطنيها ولا تتركهم دون أن تصلح شأنهم".

اللغة القرآنية تؤثر بكثرة على رواية "العتوم"، تشده من قمة الرواية بعنوانها إلى آخر سطورها، وكذلك الأشعار؛ مثل تلك التي نسجها في السجن لأمه، واستمرت إلى 180 بيتا لم ينشر إلا هذا المقطع بالرواية، وكذلك في أوصاف عدد من المشاهد مثل زيارة الأقارب لذويهم بالسجن فيقول إن السجناء يصيخون السمع لأسمائهم، ويهرعون إلى الأقارب كما يسارعون إلى الحجر الأسود كي يستلموه، فالزيارات هي الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي.

يا أم أيمن لا شكوى تردينا

إلا إلى الله إن الله يحمينا

نموت من أجل أن تحيا عقيدتنا

ولا نذل لجبار وطاغينا

لقد وردنا على حوض الهدى شرفا

فلا السجون ولا التعذيب يثنينا

يستغرب الكاتب من أن الكتب المتاحة في السجن هي كتب التفاسير والسير النبوية، وقبلها القرآن، يقول "أمعقول أن أجهزة الدولة تعدنا خارجين عن الإسلام؟، أو ضالين وتريد أن تعيدنا إلى حظيرة الإسلام وتهدينا؟"، لم يتعرض "العتوم" لتعذيب بشكل مباشر، إلا أن عذابا بالصمت والحيرة كان في فترة البداية، عذبوه بأن أخفوا عنه تُهمته والتي عرف أنها الشعر فيما بعد "ما تبت عن شعري ولا استغرفته.. ما أسخف الشعراء إن هم تابوا".

كان "العتوم" يحفظ ما يتفتق به وعيه عن القصائد عن ظهر قلب، حتى علم بسجن "سواقة" أن القلم متاح، فبدأ يكتب ويكتب ويكتب، استطاع أن يخرج قصائده من خلال أحد أقاربه مع أمناء الشرطة، تبادلها معه بعد الاتفاق وكأنه يطلب "فكة" لبعض النقود، بتلك الحيلة خرجت القصائد تحت بصر كاميرات المراقبة في السجن إلى النور.

أخبار العفو الملكي كانت تقتل السجناء، تلك الحيرة حول الشائعات كانت كالسراب الذي يراود "العتوم"، تماما كسراب الماء والخضرة، ورغم هذا كان شاعرنا يرفض مبدأ العفو، كما رفض الحكم عليه بعام، يقول "العفو؟ العفو عم؟ عن خطاياي التي ما ارتكبتها؟ عن أشعاري التي لم ترد أن تصبح عبيدا في قطار السلطة؟، كم أشفقت على السجناء وهم يخططون لعفو لا يأتي، صاروا يهذون، وطائر العفو لم يحط على شباك أي مننا".

القراءة أصبحت أنس السجين، ودموعه رفيق الدرب "تاريخ البكاء يغريني حتى صار عذابا عذبا، استدعيه في حالات التقوقع على النفس ليخلصني من آلام الذكرى"، غير أن ملعب السجن كان بمثابة المنحة الإلهية له، يخرج ويمرح في ساعة التريض.

الاكل القليل، الملح واللبن، الصيام يوما والافطار يوما، الوقت البطيئ الذي يمر أمام أعين السجناء، تعلم أن يتغلب على شهوة الأكل "حين نهزم أنفسنا، وشياطين رغباتنا، نشعر بزهو قار في حدائق الذات المضخمة". عدة قضايا سمع من أصحابها داخل السجن، مثل قضية "بيعة الإمام"، وأيضا "الأفغان الأردنيين"، والمتهمين من المخابرات بتعاملهم مع الأفغان، عقب جلساته معهم توصل إلى أن 90% منهم لم يذهب إلى أفغانستان من الأساس، وأن القضية كانت بمثابة قربانا عربيا للنظام الأمريكي في حرب الأخير على الإرهاب.

شرب "العتوم" من تجربة الحياة والموت معا بداخل السجن "شربت من ماء الحياة الذي لم يكن زلالا في كل مرة"، سخر من وجود أحد السجناء بتهمة ملفقة بالتجسس لصالح إسرائيل، فسأل هازئا "قبل معاهدة السلام أم بعدها؟"، ليرد السجين عن بعد المعاهدة أصبح "تعاون وتبادل معلومات".

انتقد الشاعر في روايته بعضا من أفكار المجاهدين "زادت العزلة بيننا"، وذلك بسبب التشدد والغلظة في التعامل، وأن النظام التشريعي والشرطي والدولة نظام تكفيري، وهو ما لم ينجذب إليه "العتوم"، مزيدا في وصفه لتدريباتهم الصباحية داخل السجن، كان أشهرهم "أبو مصعب الزرقاوي" و"أبو محمد المقدسي".

تقلصت الزيارات له، زادت شدة القهر في أواخر المدة، واجه تلك السياسات بالإضراب مع آخرين عن الطعام، حتى واجه السجن الانفرادي وحيدا، ثم جاءت لحظة الخروج، لم يخرج "العتوم" من السجن إلا جسدا، لكنه ظل بداخله لفترة طويلة، احتاج وقتا ليعيد ذاته، ويكتب رواية عمّا مر به.


تابع باقي موضوعات الملف:

هل أتاك حديث السجون؟ (ملف خاص)

 

الطريق إلى ''زمش''.. ''لما الشيوعية ماتت م الضحك''

 

'سجينة طهران''.. فصل من حياة فتاة إيرانية داخل سجن ''إيفين''

 

''تلك العتمة الباهرة''.. قصاصات عن الموتى الأحياء

 

في ''شرق المتوسط''.. كلنا سجناء

 

''شرف''.. حين يُحول السجن الإنسان إلى ''مسخ''

 

''حيونة الإنسان''.. طوبى لمن غنّى خلف الجدران

 

فيديو قد يعجبك: