إعلان

بالصور- ''مخابئ'' القباري.. معجزة الحياة تحت الأرض

08:18 م الثلاثاء 25 نوفمبر 2014

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب- أحمد الليثي ومحمد مهدي:

''شعب يصنع المعجزات'' هكذا تتردد العبارة في ختام مباراة كرة، أو بداية حفل موسيقي، بمشهد من فيلم مؤثر، أو كلمة لرئيس، فيما تبقى هناك معجزات لا تحوي بين طياتها أي من مظاهر البهرجة والاحتفال، ففي تلك المنطقة تخطى الإنسان المجاز؛ فإن كان هناك من يعتبر حد الكفاف هو العيش في منزل بسيط يجاهد لانتزاع قوت يومه، فهم اتخذوا من باطن الأرض ملجأ، وإن كان من يرفق بالحيوان شخصا سويا يُقدر للحياة قيمتها، فهم يتخذون من ''الجحور'' مستقرا، وإن كان استنشاق الهواء النقي ميزة غير مُحتكرة لدى كل بني أدم، فهم محرومون منها طيلة العمر.

هنا لا يصعد القاطنون إلى مأواهم كبقية خلق الله، لكنهم ينحدرون إلى حجرات أشبه بالقبور، وجبهتم بقلة الحيلة محنية ''إحنا عايشين كدة حلاوة روح'' تقولها نور حسن بعين يحتلها اليأس وهي تجلس أعلى بيارة الصرف الصحي، المقابلة لبلوك رقم 13، فيما تتلفت بصعوبة للإشارة إلى مستقرها ''تحت الأرض''.

نحو 20 بلوك تكمن أسفلها عدد من ''المخابئ'' المستخدمة ذي قبل في سنوات الغارات الإسرائيلية، فيما اتخذها السكان الحاليون ملجأ بعدما سُدت في وجههم السُبل ''لسة فاكرة وأنا صغيرة لما أبويا وأمي وأهل المكان كسروا الطوب اللي كان قافل الخنادق ومن يومها وإحنا عيشتنا متغيرتش''.

تروي المرأة الأربعينية تفاصيل الولوج لـ''قباري 9''، من أكشاك كرموز المتهالكة إلى مخابئ القباري ياقلبي لا تحزن، هكذا لسان حال ''نور'' ورفيقة جلستها، تربيا سويا ولا تزالا تتذكران ذلك اليوم الذي أخبرتهم فيه الدولة أنه وجودهم عابر ''هتقعدوا هنا مؤقتا''، بينما تدور الأيام وتمر السنون ولا يتبدل سوى هوية القادمين لإحياء أمل فقدوه ''كل كام شهر يّجوا ياخدوا البطايق وأسامينا ويقولوا هانت.. وادي وش الضيف''، تضحك بوجه خلا من بهجة وهي تقول ''الناس دي خدت أسامي ناس عند ربها وولادها لسة قاعدين في الأوض.. بس خلاص الموضوع مبقاش بيأثر فينا''.

8 درجات تقودك إلى عالم خفي، شرخ يقسم البلوك نصفين بالطول يشير إلى قرب النهاية، سلالم بالية تقول عنها نور بفخر ''لسة مجددينها عشان متقعش بينا''، ومواسير مياه أكلها الصدأ مثبت بها خشبة عريضة تشرح ماهيتها كمقاول بناء خبير ''مش معانا فلوس نسد الأخرام فكبسناها بخشبة ومسمار لحد ما ييجي الفرج''، أصوات ضجيج تخالطها ألفاظ نابية يطلقها طفل لم يتخط عمره الرابعة، ينهره والده الذي يرتدي ''فانلة حمالات'' بعنف وهو يتمتم ''عيال متربية في الشارع مش في شقة مقفولة عليهم.. عايزهم يطلعوا أيه؟''.

6 غرف في أقل من 50 متر، في كل منها أسرة تتراوح بين 5و7 أرواح، وفي بعضها أكثر من أسرة، بوقوف 10 أفراد داخل الغرفة تنسد الأفق، أبواب خشبية نُحلت بفعل المطر ومياه الصرف تفصل بينها، فيما يستقر ''بوتاجاز'' في أوسط الحوش الصغير يستعملها الجميع ''بالشرك''، الهواء يصل إليها بالكاد محملا برائحة العطن التي تفوح بقوة؛ لذا لم يكن مستغربا أن تبدو أنفاس الأطفال المتقطعة ظاهرة متفشية بالمكان.

يلتقط وليد مصطفى المريض بأزمة صدرية حادة أنفاسه بصعوبة، وهو يلملم حصير الغرفة التي يقتسمها مع شقيقه، لاعنا الروتين الذي أبقاه هنا دون جدوى تذكر منذ عصر يوم 23 يونيو 1999، حين أخبرته موظفة الحي بقرب استلام شقته في موعد قريب، منتظرا حضور الفرج لكنه أبى على الانصياع لرغباته ''مراتي طفشت من البيت وحلفت ما ترجع إلا لما أطلع من الخُن اللي إحنا وقعنا فيه''.

أمام باب خشبي ممهور بلفظ الجلالة راح سعيد مصطفى الشقيق الأصغر لوليد يصوب سهام غضبه قبل المسئولين المتتابعين على تولي زمام الأمور بدءا من رئيس الحي ووصولا إلى رئيس الجمهورية مرورا بالمحافظ، على اختلاف اسمائهم قبل أن يقول بوجه طافح بالمرار ''دي عالم بتعرفنا وقت الانتخابات بس وبياخدونا سلم لحد الكرسي.. ده واللي قبله واللي جاي''.

 

ربما كانت الأشياء تورث جيل تلو الآخر، من الشيخ أبي القاسم القباري المالكي السكندري –المشتق من اسمه المكان- والمعاصر للدولتين الأيوبية والمملوكية، الذي نشأ بالإسكندرية وعاش بها زاهداً متقشفاً، وصولا لأهل ''قباري 9'' الذين استكملوا المسيرة دون إرادة خالصة منهم، فقد فُطروا على تلك الأحوال المضنية.

كل شئ في ''قباري 9'' يسير بعشوائية إلا أن هناك توقيتات تضبط عليها ساعتك، ففي كل ربع الساعة تهب رائحة عفنة ناجمة عن مخلفات القمامة ومياه الصرف الصحي القابعة خلف كل بلوك، على بعد شبر من نوافذ المخابئ البادي منها نصفها أعلى الأرض، فيما يستكين النصف الأخر أسفلها ''إحنا مش عايزين ننضف الشوارع.. نفسنا ننضف الشقق اللي فيها الناس'' تطلقها سيدة عجوز من طابق علوي بأحد البلوكات معلنة تضامنها وشفقتها مع قاطني ''المخابئ''.

.. وفي تمام التاسعة مساء يحين موعد إطلال الفئران ضخمة الحجم ''لو سبت الشقة يومين تلاتة بلاقي الفيران حاميين البيت من الحرامية'' يطلقها ''بيبو'' صاحب المقهى المجاور متهكما قبل أن يقول بأسى ''من كام أسبوع في فار كل وش عيل صغير''. ومع بداية كل شهر يحاول ونش الحي أن ينتزع الفضلات والقمامة من مياه الصرف غير أنه يعود من حيث جاء بعد عدة محاولات فاشلة بسبب الأرض التي أصابها الهبوط.

طوابير من السيدات والأطفال يصطفون أمام باب حديدي في مشهد اعتيادي، ليس لشراء الخبز أو الخضروات، إنما للدخول إلى دورة المياه –الوحيدة- العامة المخصصة لقضاء الحاجة ''بناتنا بيدخوا الحمام في الفجر وسط الشباب''، جملة خرجت في نفس واحد من فم أكثر من سيدة، قبل أن تُهدئ من لغطهن إحداهن وهي تشير إلى الأبواب الخشبية المثقوبة بفعل المتحرشين ''في واحد حاول يصور بنتي من يومين لولا شاب كتر خيره قام معاه بالواجب''.

 

قبل نحو شهر رحل عم ''فتحي'' وحيدا في غرفته بعد أن أكلته الرطوبة كجدران غرفته المتواضعة، وهو لم يكمل بعد عامه الخامس والأربعين، وفيما كان أهل المنطقة يتجمعون لتغسيله بالمكان استحال الأمر؛ بسبب الصرف الصحي الضارب في الجدران والأرضية، فما كان منهم إلا أن أخرجوه في نهر الشارع لتتم عملية التغسيل على مرأى ومسمع من الجميع. يروى رجل مسن الحكاية بأسى ورجال المنطقة يتحلقون حوله، قبل أن يقول بحكمة ''المحافظة جت من كام يوم ووعدتنا بتغيير الحال.. بس أنا أوعدك إن السنة الجاية هتيجي واللي وراها وهنفضل زي ما احنا.. أصل حاجة الغلابة غالية نار'' .

تابع باقي موضوعات الملف:

في إسكندرية.. البحر غضبان ما بيضحكش (ملف خاص)

2014_11_25_21_46_0_697

بالصور- مصراوي داخل ''مساكن السجون''.. الحياة في زنزانة مفتوحة

1

 

بالصور- كبائن خدم الملك فاروق.. من جاور السعيد ''يحزن''

3

 

بالصور.. مصراوي على ضفاف ''فينيسيا'' المعجونة بمياه الصرف

 

4

 

مأوى الصيادين.. بيوت تغرق في "شبر مايه"

5

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: