إعلان

الحب على الطريقة الفلسطينية.. يبدأ بالطبخ في زنزانة ولا ينتهي بالمقاومة "الحلقة السادسة"

09:10 ص الثلاثاء 31 مارس 2015

كتب-أحمد الليثي ودعاء الفولي وإشراق أحمد:

في الحلقة السابقة: فاطمة الممرضة تجمع شمل أبيها وعمتها وتداوي أسير إسرائيلي

في 24 نوفمبر 1983 كانت أكبر عملية تبادل أسرى في تاريخ فلسطين، بتسليم 6 جنود إسرائيليين مقابل 4700 أسير فلسطيني ولبناني، فيما كان يخبئ القدر لـ"فاطمة" حدثا محوريا على أثر تلك الصفقة، حين توجهت إلى الجزائر بأمر من قيادة الثورة فكانت المفاجأة؛ من مصر حيث تخضع للعلاج إلى أرض المليون شهيد،، لبت الأسيرة المحررة نداء أبو عمار، في أعقاب تحرير 6 أسرى ضمن 1400 سافروا إلى الجزائر، من بينهم "فوزي النمر"، الرجل الذي سطر في حياة الأسيرة المحررة حروف من نور.

الاسم والمهمة وصورة منفذها إذا ما تم سجنه يظل معروف في دائرة الفدائيين، لذا حينما أطلت الشابة من باب السفارة - نحيلة الجسد، سمراء البشرة، قصيرة القامة-؛ نظر إليها الأسرى المحررين باستغراب، تساءلوا "مين هاي السمرة؟"، فهيئة الفتاة خلاف صورة "البرناوي" المتخيلة، إذ لم يكن يظهر من صورتها المتداولة غير الوجه، لذا اعتقدوا أن أول أسيرة مسجلة في سجون الاحتلال، حتما سيدة كبيرة العمر، ضخمة البنيان كي تقدر على إرهاب العدو، لكن العكس كان.

أقبل "النمر" ملقيا التحية، مُقبّلا رأسها وقال "إحنا من غير ملابس وبدنا مساعدة"، كانت مع "فاطمة" حقيبة مليئة بالملابس أعطتها إياها زوجة السفير، ليأتي تدبير القدر، لم يناسب الشاب الأبيض طويل القامة أيا مما بالحقيبة، بل كان نصيبه أفضل مع علم فلسطيني بحوزة "البرناوي"، أعطته إياه يلتحف به، ليصير علم الأرض أول هدية بين الرفيقين، عليه تجمعا دون فراق "فضل معاه لحد ما مات" تقولها بينما تلتحف هي بصوره التي تملئ أرجاء منزلهم بمصر.

منزل "فاطمة" في القاهرة لا تغادره الأحبة، بكل ركن تطل وجوههم بالصور، أينما جلست وولت وجهها كانوا قِبالتها، وحين سيرها بخطوات متئدة وظهر منحي، تعتدل بصعوبة متحدية الألم، لتلقي عيونها السلام والتحية، صوب صورة شقيق الروح حق للنظرات أن تأخذ وقتها، علها تعوض فقدانها له الذي طال قرابة عامين من عمر "درة المناضلات"، كان به زاد لها، يبادلها طاقة الإخلاص والحب من مناضل لمناضلة، وزوج لزوجه.

النضال، حركة فتح، السجن، المطبخ، التضحية، خفة الظل، كسر القيود.. قواسم مشتركة جمعت "فاطمة" و"فوزي" دون لقاء، من أهل عكا هو، انضم للمقاومة وشكل مجموعة "778"، وأخذوا يدبوا في نفس الصهاينة الرعب، يثأرون للدم والعرض لفلسطين والوطن العربي، فكان الرد عنيف على ضرب إسرائيل لمدرسة بحر البقر في مصر، بتفجير خط أنابيب بترول ومحطات قطارات في يافا وحيفا، وكان السجن وسيلة المحتل لإيقاف "النمر" ورفاقه، 15 عاما أمضاها خلف القضبان، عقد بها العزم على الزواج من أسيرة فلسطينية فور خروجه، فكان القدر يقوده إلى الشابة السمراء.

كأنما القصص المَروية للصغار، لكنها في أصلها حقيقة وليس محض خيال راويها.. اجتمع رفيقا الدرب، في السفارة الفلسطينية عام 1984 بتونس طلب المناضل فوزي النمر يد "فاطمة" للزواج، بحياء تفاجأت بالخبر، كان شاب وسيم طويل القامة "أول ما شوفته كنت أظنه من اليهود"، الفارق بينهما 3 سنوات، "اطلعي طولك شبر.. متقوليش هيك الكلام بأنك متجوزة القضية الفلسطينية" ظل يطاردها بالمكالمات الهاتفية لتوافق على الزيجة، فيما تقابله بحجج الرفض "أنا عندي السكر.."، فيلاحقها "بعرف ومخلعة سنانك من وقت السجن وأنا بدي إياكي".

بكلمة لياسر عرفات انتهي الحدث السعيد، كان فيه أعز الأشخاص على العروسان شهود على عقدهما المقدس؛ أبو عمار وكيل العروس وأبو جهاد-خليل إبراهيم- وكيل العريس، وهكذا ظل الرجلان يحتضنا المناضلين طيلة حياتهما.
30 عاما كان بها "فوزي" العائلة، العوض الإلهي لـ"فاطمة"، يرافقها بكل رحلاتها، يتشاركان أجواء الحكايات التي جمعتهم من غير لقى، إذ عمل كل منهما بمطبخ السجن، لتمر السنوات ويقفا معا في مطبخ واحد بمنزلهم الصغير، يحضران معا الطعام.

طيفان يعيشان معا، يقتسمان حتى تقشير الطعام، تداعبه فتختلس من حباتها، وتضيفها إلي مقداره، توزع أحد قمصانه فيبادلها المزاح "لما بدك توزعيني بس قولي لي عشان أختار وين بدي أروح"، هكذا كانت حياتهم حب للنضال وفيه، يخفف عنها يوما لتقدم له عينيها قربان من محب مخلص لسنوات.
الشدائد كانت تزيد رباط الزوجين قوة، 8 سنوات مرض بها "فوزي"، هزمه الإعياء حتى أصابه شلل رعاش، وانهكته العمليات المتتابعة، غير أن يد "فاطمة" كانت بردا وسلاما على نفسه حتى اللحظة الأخيرة؛ "خالتي عمي ضغطه نزل" كلمة قالها الشاب المعاون لها في خدمة المناضل، فهرعت إليه فزعه، شربة ماء من يدها "التانية مقدرش يشربها"، أغمضت عيناه في حنو، استودعته عند بارئه في صمت "لا لطمت ولا صحت" قالتها بينما تنهل عيناها من تفاصيل الزوج المخلص بالصورة المعلقة يمين مجلسها.

أبناء "فاطمة" ونعمة الأمومة
لم يقنط الزوجان لعدم وهبهما الذرية الصالحة، بل وجدا في كل شاب وفتاة ابناء لهم، واكتفت "فاطمة" بالنعمة التي حباها الله لها من قبل الزواج؛ كأنه جزاء لها مسبق؛ فالإنسانية طالما طغت على تصرفات الخالة، لم تكن من النساء اللاتي يحسبن للمجتمع حساب، لذا حينما عثرت على صغيرة توفت والدته، لم تكن تعرف لها اسما، فقط كل ما تعلمه أن الطفلة تبكي بلا توقف فتكفلت بها، وهي مازالت شابة تعمل بالتمريض في قلقيلية، لم تتزوج بعد.

اعتاد الموجودون بالمشفى على الأطفال اليتامى، لكنها أبت أن تترك الفتاة في مهب الملاجئ "قالولي بلاش تاخديها لأنك مش مرتبطة"، غير أنها اتصلت بوالدها تخبره بقصة الطفلة، فطالبها أن تستأذن أمها "وقتها والدتي قالت له إنه عندها السكر وصعب ترعاها"، اُصيبت "فاطمة" بخيبة أمل، لكنها تمسكت بالبنت رغم كل شيء.

السبت من كل أسبوع كان موعد زيارة "فاطمة" للأهل في القدس، حاملة حقائب السفر والطفلة ذهبت، لا تفكر كثيرا في عقبات الموقف "كنت خجلانة أحملها وأدخل بها البيت"، لذا أعطتها لحامل الحقائب، دلفت إلى المنزل الخالي، فقد كان والدها في العمل، والأم تشتري حاجيات المنزل، وضعتها على مقعد قريب من المدخل، وجلست هي على أريكة مواجهة للباب، علمت الأم بخبر قدوم الطفلة قبل مجيئها إلى المنزل "قالولها بنتك إجت ومعها صغيرة".

دخلت الأم، لم تنظر قبالة “فاطمة” التي تنتظرها، بل اتجهت صوب الطفلة الصامتة الموضوعة على المقعد، رفعت الطفلة ببطء، نظرت لها قليلا، رق قلبها فورًا، قرّبتها من صدرها لترضعها رغم أن آخر مولود لها كان قبل ذلك بسبع سنوات، تعلقت والدة المناضلة بالطفلة، كأنما كانا على موعد، بقيت معها، وأصبح "لفاطمة" صغيرة، كبرت فيما بعد وتزوجت وعاشت بالقدس.

التكفل بطفل وحمل مسئوليته، أمرا ليس هينا، غير أن "فاطمة" جربته مرتين؛ في المرة الثانية كان أخوها له طفلة صغيرة، لأسباب عائلية فقدت أمها، اتصل بها يوما، يطلب منها بصوت خجل رعاية ابنته، لم تأخذ وقتا للتردد، عاشت معها كذلك، لكنها أكملت حياتها فيما بعد بمصر؛ هكذا صارت أمًا لبنتين، توزع رعايتها عليهما، في حالة أشبه بما تفعله مع فلسطين ومصر طوال الوقت.

الحلقات السابقة:

فاطمة تزلزل إسرائيل بحقيبة يد وأغنية لأم كلثوم.. "الحلقة الأولى"

كيف هزمت ابنة البرناوي إسرائيل بحذاء الكعب العالي؟ "الحلقة الثانية"

"التنكيد" على إسرائيل "فن" تعرفه فاطمة البرناوي.. "الحلقة الثالثة" 

منزل فاطمة.. كوكب مصغر للإنسانية "الحلقة الرابعة"

دستور فاطمة الأخلاقي.. تخدم الأقصى وتداوي جروح اليهود "الحلقة الخامسة" 

فيديو قد يعجبك:

لا توجد نتائج