"تم الرد على الخاص"

قبل 4 أشهر، وفى نهاية يوم شاق من العمل، جلست إلى جهاز الحاسب الألى أتصفح موقع الفيسبوك، قبل أن أتفاجأ بإعلان يظهر على يسار الصفحة: «هل تبحث عن شراء شهادات جامعية معتمدة من الجامعة والكلية؟»
الصيغة التي كتب بها الإعلان الذي نشرته صفحة على فيس بوك تدعو متابعيها للتواصل معها من أجل الحصول على شهادات جامعية، جعلتني أنتبه، وبلهفة وشغف ذهبت أتقصى «ماذا يعنى شراء شهادة جامعية بكالوريوس- ليسانس- ماجيستير- دكتوراه؟».

بكالوريوس ودكتوراه للبيع على «فيس بوك»

كانت هذه بداية تحقيق استقصائي استغرق 4 أشهر، وثقنا فيه بالصوت والصورة محادثات هاتفية ومقابلات مع سماسرة بيع الشهادات الجامعية والأسعار التي يطلبونها طبقا للكلية والتخصص المطلوب، والتي تصل إلى 150 ألف جنيه لدرجة الدكتوراه.
لنكشف عبر هذا التحقيق كيف يمكن لأي شخص لم يدرس يوما واحدا بالجامعة أن يحصل على شهادة بكالوريوس أو ليسانس أو دكتوراه أو ماجيستير في أي تخصص؟
واستطعنا في نهاية التحقيق الحصول على شهادة دكتوراه باسم محررة مصراوي من كلية الإعلام جامعة القاهرة، إضافة لشهادة بكالوريوس باسم زميل صحفي أردني من كلية طب جامعة القاهرة رغم أنه لم يزر مصر منذ سنوات.

على "فيسبوك".. البيع علني

"شهادات جامعية معتمدة".. بهذه الجملة روجت صفحات على موقع الفيسبوك لبيع شهادات علمية بدرجات مختلفة على مرأى ومسمع من آلاف المتابعين، وأكدت أن الشهادة التي ستحصل عليها من خلالها معتمدة من كبرى الجامعات الحكومية المصرية.
دون خوف من حسيب أو رقيب، وضعوا بجانب تلك الإعلانات شعارات لعدد من الجامعات، كان أبرزها جامعة القاهرة وعين شمس وحلوان و6 أكتوبر.
التفاعل الكبير من رواد تلك الصفحات كان ملفتا للانتباه، أشخاص يطلبون شهادات في تخصصات (التجارة والحاسبات والمعلومات والهندسة والطب وغيرها)، وآخرون يطلبون درجات علمية (بكالوريوس وليسانس، وماجيستير ودكتوراه).
ولم تقتصر متابعة تلك الصفحات على المصريين، بل أصبحت تجارة بيع الشهادات الجامعية المصرية مفتوحة أمام الأخوة العرب: "أنا سنة رابعة حقوق جامعة حلب كنت عاوز شهادة باسمي ورقمي الجامعي ومعتمدة، شو المطلوب مني؟".
إلا أن ردود القائمين على تلك الصفحات على أغلب التعليقات كان "تم الرد على الخاص.

التواصل على الخاص

أرسلنا عددا من الرسائل الخاصة عبر "ماسنجر الفيس بوك"، لبعض متابعي تلك الصفحات، ادعينا أننا نريد أن نحصل على شهادة جامعية ولكننا لا نثق في هؤلاء الأشخاص، مستفسرين عما إذا كانت لهم تجربة معهم أم لا".

رفض معظمهم الرد على رسائلنا، لكن أحدهم تشجع وأخبرنا كافة التفاصيل "أحمد عيد" -اسم مستعار-، لم يمنعه الخوف من الاعتراف بارتكاب فعل مخالف للقانون، من أن يجيب على مراسلاتنا، بوضوح: "أنا أخدت فعلا شهادة بس لسه موثقتهاش من السفارة".

لم تكن الشهادة التي حاول "عيد" الحصول عليها بعد سفره إلى دولة الكويت شهادة جامعية، بل كانت شهادة خبرة تفيد بأنه عمل لمدة ثلاث سنوات بإحدى الإدارات التعليمية.

إعلان

«مصراوي» يخوض مغامرة ويشتري دكتوراه في الإعلام وبكالوريوس طب

بعدها.. قررنا أن نخوض مغامرة التواصل مع سماسرة بيع الشهادات الجامعية، لشراء شهادات جامعية في تخصصات ودرجات عملية مختلفة، للتحقق من مدى مصداقية المروجون لتلك الصفحات.

عبر «الماسنجر» أرسلنا لشخص يدعى "تامر" يستخدم حسابه الشخصي للترويج لبيع الشهادات الجامعية، نستفسر عن إمكانية الحصول على بكالوريوس، وبالفعل أخبرنا أننا يمكن أن نحصل على بشهادة إما بملف بالجامعة في خلال 40 يوما أو بدون ملف نحصل عليها في 20 يوما".

"يعنى إيه شهادة بملف؟" قال: "يعني شهادة ليها أصل في الجامعة يا فندم... الجامعات المتاحة معي القاهرة وعين شمس والمنصورة والزقازيق".

من الفيس بوك للواتس اب

بعد مراسلاتنا للصفحة التي تروج لبيع الشهادات الجامعية استطعنا أن نحصل على رقم الهاتف، أرسلنا لهم عبر تطبيق "واتساب" نستفسر عن إمكانية الحصول على شهادة دكتوراه في الإعلام.

مقطع صوتي لتامر السمسار

استخدم السمسار الذي أخبرنا إن اسمه "تامر" تقنية الرسائل الصوتية المتاحة عبر تطبيق "واتساب" ليخبرنا بالتفاصيل

شهادات معتمدة "عينة من شغلى"

وفى محاولة لبناء الثقة معنا قام “تامر" بإرسال شهادات جامعية أخبرنا إنها "عينة من شغلي"، تنوعت تخصصاتها ونسبت إلى جامعات مختلفة.

تضمنت الشهادات معلومات مفصلة عن حامليها وأرقام البطاقات الشخصية الخاصة بهم وجنسياتهم، وحملت أختام وشعارات عدد من كبرى الجامعات الحكومية.

هندسة القاهرة.. نصيب الأسد

أكثر ما لفت انتباهنا في هذه الشهادات أن كلية الهندسة بجامعة القاهرة نسبت إليها وحدها 4 شهادات، فتوجهنا إلى الكلية على الفور وتحديدا إلى مكتب شئون الخريجين، للتأكد من صحة الشهادات التي تحمل ختم شعار الجمهورية جنبا إلى جنب مع أختام الكلية والجامعة، لتفاجئنا إحدى الموظفات بالرد شفهيا بعد الاطلاع على الاسم فقط: هذا الطالب "غير مقيد بالجامعة".

إعلان

بعد زيارة لمكتب شؤون طلاب هندسة القاهرة، توجهنا إلى مكتب الدكتور تاج الدين عميد الكلية.

العودة للتواصل مع السمسار

بعد التأكد عبر عينة من الشهادات التي أرسلها السمسار أنها بالفعل عينة من شغله ولطلاب لم يقيدوا بالجامعات، عدنا للتواصل معه إلا أنه رفض "تامر" إتمام الاتفاق معنا قبل دفع مبلغ 15 ألف جنية كمقدم، وهو ما جعل الأمر صعباً، لكننا لم نيأس.

أستاذ جامعي مزور

في هذه الأثناء علمنا بما حدث بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

في 11 مايو الماضي تشككت لجنة تعيين هيئة تدريس المعاهد الخاصة التابعة للوزارة، بشهادة دكتوراه لأحد المتقدمين لشغل وظيفة مدرس بقسم المحاسبة بأحد معاهد العلوم الإدارية بمدينة سوهاج، والتي أفادت بحصوله على درجة دكتوراه من كلية التجارة جامعة عين شمس، والذي بعد مخاطبة الوزارة له للتأكد من صحة الشهادة أفاد بإن الشهادة مزورة وغير صحيحة.

مغامرة جديدة مع سمسار آخر

بعد تعثر مفاوضات الحصول على الشهادات الجامعية قبل دفع مبلغ مالي مقدما مع السمسار "تامر"، تواصلنا مع سمسار جديد «أحمد».

تواصلنا معه عبر تطبيق الواتس اب وعبر الهاتف، وبعد عدة مكالمات، أرسل أيضا عدد من الشهادات المزورة كعينة من شغله، واقترح "أحمد" الذي أخبرنا أنه يعمل مدرسا مساعدا بإحدى الجامعات أن نقابله شخصيا.

بالفعل أجرينا المقابلة وأخبرنا السمسار حينها أنه ينتظر زبون آخر ليتسلم منه مبلغ 15 ألف جنيه مقابل بدل فاقد لشهادة حصل عليها من قبل.

"التعليم العالي": ليست مسئوليتنا

حاولنا التواصل مع وزارة الداخلية للوقوف على جهود الوزارة في ضبط تلك الجرائم والإحصاءات الرسمية لعدد جرائم تزييف وتزوير الشهادات الجامعية، إلا أننا لم نتلق أي رد حتى نشر التحقيق، بينما كانت وزارة التعليم العالي أكثر تعاونا في الرد علينا.

النقابات والشهادات المزيفة

كان هناك محاولات فردية لعدد من النقابات، لضبط عدد من الشهادات المزيفة، أبرزها نقابة الصيادلة، والتي حصلنا من خلالها على مستندات لعدد من الوقائع التي تم ظبطها.

تواصلنا مع نقابة المحامين، وسألنا عبد الرحمن مروان مسؤول سابق بالمركز الإعلامي للنقابة، عما إذا كانت النقابة رصدت أى شهادات جامعية غير صحيحة، ضمن الأوراق التي يتقدم بها خريجي كليات الحقوق للقيد بالنقابة، أجابنا: "على مر السنتين الماضيتين، ضبطنا نحو 30 شهادة نسبت إلى جامعات مختلفة وتم مخاطبة الجامعات بشأنها، وجميعها أحيلت إلى الجهات المختصة للتحقيق بها".

إعلان

في الموعد.. استلمنا الشهادتين

مرت العشرة أيام، وفى الموعد المحدد تماما كما أخبرنا السمسار تسلمت محررة مصراوي عبر تطبيق "واتس اب" صورتين لشهادتين جامعتين إحداهما باسمها نسبت إلى كلية الإعلام جامعة القاهرة، تفيد بأنه في تاريخ 26 إبريل من عام 2017، حصلت معدة التحقيق على درجة دكتوراه في علوم الإعلام بتقدير عام امتياز.

بينما نسخة الشهادة الأخرى كانت "بكالوريوس في الطب والجراحة"، واستخرجت باسم زميل أردني الجنسية لم يزر مصر منذ عام 2012، بتقدير عام جيد جدا، وختمت الشهادة بخمسة أختام، بينها (ختم جامعة القاهرة، وأمين الجامعة وختم الكلية)، ووقعت باسم عميد الكلية وموظفين آخرين.

لتصبح بذلك معدة التحقيق صحفية بدرجة "دكتوراه"، ويصبح الصحفي الأردني، صحفي بدرجة طبيب بشرى "جراح".

كان من المفترض طبقا لما تم الاتفاق عليه بين معدة التحقيق والسمسار، أن تذهب معدة التحقيق لمقابلته فور استلامها صور الشهادات عبر تطبيق "واتس آب" لدفع المبلغ واستلام الشهادات، لكن بعد استلامنا صور الشهادات لم نرد على السمسار، مما دفعه لإرسال رسالة تهديد مباشرة لمعدة التحقيق.

يعملون بشهادات مزورة

وبقي لدينا تساؤل، هل الشهادات التي أرسلها لنا السماسرة مزورة، وتمكن أصحابها بالفعل من العمل بها؟

بالفعل تأكدنا أن الشخص الذي حضر في نهاية مقابلتنا مع السمسار، يعمل في معمل للتحاليل الطبية بمدينة الباجور في محافظة المنوفية.

بينما شخص آخر زور شهادة بكالوريوس هندسة من جامعة المنيا، يعمل كمهندس فني بإحدى شركات المقاولات بدولة عربية.

والنموذج الثالث، زور دكتوراه في جراحة العظام والمفاصل ويمارس مهنة الطب في عيادته بدمياط.

تحقيق: داليا شبل

تنفيذ: فارس أحمد - أحمد ياسين